صدى أغنيات - عبدالناصرحداد

-1-
.. لغة تخرج من رحم العقم، يفجّرها الحزن، فتستقطبُ أفلاك الهم، نجوم النحس،
وإذ يخذلها الصمم البشريّ تفيض
سيولاً من حمم ولهيب.
.. لغة تبحث عن أحرفها، عن كلمات تغزل منها ما يكسو عري الأفكار، تلَوّى تحت
الأقلام، تنام بجوف الأرض دهوراً
علّ الصمت يخمرها كي تصنع يوماً زلزالاً..
..لغة لا تشبهها لغة، تخرج ثانية من جوف الأرض، تزيح ستائر شتى، وتذيب الأقنعة
الخرساء، تحرّك أفواه الأحجار،
وتحيي الموتى..
فمتى؟!
*
*
-2-
ورق على ورق على ورقِ
والوهم ماض في المدى النزقِ
ورق لنكتب صكّ غفوتنا
ونكفّن الأحلام بالورقِ
نضحي يغلّفنا الضبابْ
نغدو يغلّفنا السرابْ
نمسي فنفترش الورقْ
نغفو عليه بلا رمقْ
ورقٌ، ورقْ
ورق، ورق،..،..
صهلت خيول من ورق
شُهرت سيوف من ورق
رفعت شعارات الورق
طوبى زمان الحبر واللغة الخرابْ
لو ينبري عود الثقاب
*
*
-3-
قدرٌ أن نصفّق ملء إرادتنا
حين يرخى الستار على المهزلةْ
قدر مشكلةْ
كيف نبني بغير أكفّ
ونصرخ دون حناجرَ
نبصر دون عيونْ
قدر.. يخشع منه الجدار ويسجد سجدته الهائلةْ
ليت هذا الجدار درى أننا تحته قاعدون
نطرّز أحلامنا ونداري الحياةَ
فتلهو المنون بنا، ونخلّف عقماً، وسقماً، وسيل جنونْ
ألا إننا ميتون..
ميتون..
ميتون..
*
*
-4-
شبح كالفجر يجرّ وشاح أمانينا
تبزغ شمسٌ..
تُشرع للنور أغانينا
نتوالد مثل صباحات ربيع العمر، ونمضي..
نبحث عن درب يوصلنا
تتحرر فيه أناملنا
ونرى فيه مساعينا
بعد عناء نخبو
يحجزنا شبح كالليل يدوس أمانينا
تسقط شمسٌ..
تُشنق بين حبال الليل أغانينا
نتساقط مثل مساءات خريف العمرِ،
يتوه بنا الدربُ،
فنهوي في قبو تُقطع فيه أناملنا
ونرى فيه مآسينا..
*
*
-5-
أصبحت الكلمات عقيمةْ
فلنبحث عن ضرع آخرَ
نحن جياعْ
نحن المتخومون من الأوجاعْ
أصبحت الكلمات سقيمةْ
مَنْ يبرئها؟
والدرن الموبوء يعشش في الأسماعْ
لا الشعر ينفّس هذا الضغط الكامن فينا
لا التفعيلة تشفينا
لا النثرُ..
ولا بحرٌ يستوعب أحزان ليالينا
آهٍ..
واهاً..
أوّاها..
كم بتنا اليوم مساكينا!
*
*
-6-
"والعصر..
إن الإنسان لفي خسرٍ"
إلا مَنْ آمنَ
ألا صوتَ لجرح القلبِ
سوى الشعرِ
*
*
-7-
الآنَ..
بعد الموتِ،
والطور الجديد لقلبك العاري من البشرِ
بعد انهيار الساتر الوهميّ،
بعد الصدمة القصوى، وعاصفة الهباءِ..
عليك- بعد تبدد الأسماء والأشياءِ-
أن تمشي أماما..
وكأنّ موتك لم يكن إلا غماما!
*
*
-8-
الليل يعريكَ
الصبح يعريكَ
الداء استفحل فيكَ
فمزّق شرنقة الحزن، اخلع جرحكْ
كدت تغوص بقاع العتمِ
ولا قشةَ في هذا البحر الصمغيّ، اسبح بأصولْ
لا تقف الآن وقرّرْ
إمّا للخلف، وإما..
آن أوان تصبغ فيه قراركَ
-ذاك المائيّ- بلون واحدْ
ما بين الأبيض والأسود أرض وسماءٌ
ما بين سراب وخطاك سبيل.. فتحركْ
ما جلب الداء كما الماء الراكدْ
*
*
-9-
ما أنت أنتَ..
ولا الهواء هو الهواءُ
فتنفس اللا شيء، وادخل في الفراغ، ليسهل الآن البكاءُ
ما عُدتكَ الغافي على قمر الرؤى
ما عدتك الممهور بالإيحاء، تلهمك السماءُ
في أي عصر جئتَ،
في أي اغتراب
في أي واد صرت؟
خانتك الهضاب
والدرب موصلة إلى عدم، ورحلتك الفناءُ
ما أنت أنتَ..
متاهةٌ
عقمٌ
هباءُ
*
*
-10-
ضيّعتَ سبيلك لكنْ.. لا بأس عليكْ
ضيعت زمانك، نفسك، رسمك، واسمكَ،..،..
لا لوم عليكْ
من أنتَ؟
لا تعرف!
كل الحق لديكْ
في زمن ليس له زمنٌ
لا تعرف موضع رأسك من قدميكْ!
أرّخت فصولاً للهم الأعظم، واسترخيت مع التيار
تقاذفك الموج إلى المجهول
رياح النحس تحيطك
حشرجة الموت ولا موتَ
الشوك تربّع في حلقك، أدماكْ
وجدار من غم نام عليك.. وما زلت تحاولْ
يا بن الطين كفاكَ .. كفاكْ..
هذي الخربة لن تتعمّر
ما نحن سوى سمك والهم شباكْ
*
*
-11-
صعدوا إلى كفيكَ
واجترحوا الغماما
صعدوا إلى كفيك ..
كان براقهم عبقا
سجدوا على تبر اليدينِ،
ونصّبوا قمراً إماما
صعدوا إلى كفيك..
كان حنينهم نزِقا
هربت شفاههمُ إليك
لتلثم الكف الحراما
صعدوا إلى كفيك
فانهمروا سلاما
*
*
-12-
عشرون قابيلاً ونيفْ
كانوا عراة يلعقون دماءها
والذئب خلف السور يرصد أختهم
عادوا..
وفي أيديهمُ ثوب تلوث بالرياءْ
قالوا: أبانا..
نحن من عذرية هُتِكَتْ بُراء
نحن من دمها براء
عشرون قابيلا ونيف
يكفون كي تهوي السماء
*
*
-13-
كم يجرح الروحَ انحسار البارقاتِ
ولوثة في القلب تجتلب الصدأْ
حاولت أن ألج الحكايةَ..
غصّت الكلماتُ، غاصت في الضباب رؤىً،
وهاجسيَ انطفأْ
حاولت أن أشتقَ من حزني حبوراً
أو أصوغ النور من ناري، وأجلو الخافياتِ
وإذا انكساري معجزٌ
لا القلب ينبض بالندى
لا الحرف يجترح الصدى
لا الصوت يسمعه الملأْ
كم يجرح الروح انحسار المبتدأْ
*
*
-14-
أحياناً..
ينهمر الشعر على الأحداق
يسترسل مدّ الحزن
تناثرُ كلمات شاحبةٌ
وقصائد صفراءُ مُهوجسةٌ
أحياناً..
يتقمص حزني أشكالاً مرعبةً
فأحاول أن أمسك خيطاً من نورْ
تسخر مني الشمس.. أغيبُ
أحياناً..
لا أعرف نفسي وأنا مبتسم.
*
*
-15-
يشبه الموتى قليلاً
وقليلاً ما تواسيه الحياةُ
تسلك الأسرار درباً نحوهُ
وله في النور منحى
مشمس قلباً،
وفي عينيه تنكشف الظلامات، وتُجلى..
كم على كفيه غاضت فائضاتٌ
وعلى رؤياه أغفت أغنياتُ
كم أبى أن يجرح الصوت وإن ضجّت دماهُ
والذي يلقاه يلقى أنهُ
قد يشبه الموتى، ومن عينيه تنبثّ الحياةُ
*
*
-16-
فلأتركنَّ الوقت بعض الوقت، ولأطرحْ غبار الناس، والأسماءَ من كانوا وما كانوا.
وأخلعْ عن أحاديثي غثاء الزمكنةْ
ولأتركنّ يدي تهوِّم في الهواء على هواها
وتجسِّم الأشياء من عدم، وترسم بارتعاشتها الرموز المزمنةْ
ولأفترضْ أني وُجدت وما وجدت، وأن لي في السرّ متكأً، ودرباً في سدومٍ،
أو زوايا في زوايا مظلمةْ
ولأطلقِ الرؤيا لتفصح عن أساها المؤلمِ
"هل غادر الشعراء.." أم هل غودروا؟
وهل القصيدة ممكنةْ؟
*
*
-17-
عالياً.. عالياً.. فوق كفيَّ
ماء الرؤى يستحم بصوتي
ويهمي بياضاً على زرقة الكلماتِ
فأعبر صمتي العصيَّ
وأطلع من شدوة القبراتْ
عالياً.. عالياً..
بات عرش اللهاةِ
وموتي بموتينِ
موتي انحباس اليمامة في هيكل من ترابْ
عالياً.. عالياً..
يحدث الانقلابْ
*
*
-18-
مرة أخرى يداخلني الهواءُ
يطغى..
فأقرأ في كتاب الريحِ:
قافلتي تسافر في الهباءْ
صوتي بلا صوتٍ
وأغنيتي بلا ضوء وماءْ
ناديت: واأحياءُ..
جاء الموتْ
ناديت: وا مَنْ كنتُ
غاب الصوتْ
وأجابت الرؤيا:
كان الذي كانا
فاستحضر الآنا
بشراً بلا أسماء
*
*
-19-
يطلع القلب من قلبه بذرةً
ويقدمها للترابِ
يطلع الترب من رحمه شجرةْ
ويقدمها للرياحِ
تطلع الريح من رئتيها الهباءَ
وتكتمل الحلقة المفرغةْ.
*
*
-20-
قريباً كربّ، بعيداً كـ هُوْ
يهمّ بنا ها الأكيد الوحيدْ
قابض الكون من عنقهِ
ويسمى الفناءُ
يد من حديد، وأخرى هواءُ
ويعرفُ
كم هو يعرفُ
كيف تصير الكرامة أرضاً
وكيف تصيّر أرض كرامةْ
له في رقاب (الأوادم) ثأرٌ
ولا بد يكنسهم كغبارْ
قلبه قبلة الكائناتِ
بدايته الخاتمةْ