قلبي، متلّبساً بالهذيان... - علاء الدين عبد المولى

كامنةً تحت العبق اللَّيليِّ تضيقُ الخطوةْ
تنفرط النّجمات وتسقط واحدةٌ في قلبي
تشبه سيّدتي المغفورةُ كلُّ خطاياها
تتسلّق أسواري السريّةْ
تسحب أضلاعي لتزيّن رقصتها الغجريَّةْ
...
تلك منازل منتصف السّكْرِ
ترامتْ خلف فوانيسَ ملّونةٍ بهواء الشَّهوةْ
وأنا وبكائي عمَّرنا في الريح لنا بيتاً
وأضأناه بذكرى وجهٍ هشّمَتهْ الأيَّامُ الحُبلى
بالأحجار، بكينا، كان بكائي يبكي،
ونفتّش بين زوايا العتمة عن شيءٍ نعطيه حنانا
ممّا خلَقَ اليأسُ بنا...
(... اليأسُ: إلهٌ أسطوريٌّ رأسهُ وكرُ أفاعٍ
ويداه شلاّلا عسلٍ...)
فلمنْ نسكبُ نايَ الحزن المرهف؟
نام الكونُ، صَحتْ مقبرةُ الأشباح، تمايلَ
آسُ المدفن، وارتعدْت أشلاءُ الموتى حين تقدّمتُ أزوِّجُ
سور المقبرة الصّمّاء بأحرف اسمكِ...
مرَّ هنا الشَّاعرُ، تعرفُ هذي الجثّةُ خطوتَهُ،
قومي نسكْر: أنتِ بجمجمةٍ كُسِرَتْ في مخدعها الرُّوحيّ،
وروحي من فرط الصَّحوِ، وغيمٍ لا يتركني إلاّ حين
يصير الظَّمأُ
الجسديُّ لهاثاً.
مرَّ هنا الشَّاعر. هذي الحَجرةُ بالأمس كتبتُ عليها أُحجيةً:
(أنتِ زمانَ الحرب فؤادي...
والحربُ مجالُ بلادي... ...)
من برج الهذيان يراقبني ملكانِ
أين أهرّبُ صوتَ يَدَيْ سيّدةٍ لامَسْتُ أصابعَها
عند المغرب، فانتفض المغمَضُ فيّ، تثاءبَ قبرُ الإنسانِ
ما قلتُ: أحبّك، حكمةُ آبائي تطبقُ فوق الرّئتينِ،
وما قلتُ: أريدكِ، ذاكرتي خائبةُ الحلم وخابيتي طينْ
تنشئني كفّ التّيه، ووحدي أبحثُ في ورقات اللّحظةِ
عن عرسٍ يتعرّى المعنى فيه وأوافيه بلا عينينْ.
والصّمتُ يسرّبُ خمرتَهُ في مائدة الشِّعرِ
وجوهُ الفتيةِ كانَتْ نشوى... هذا يملأ كأساً من عسلِ
الدّمعِ ويشربُ حتَّى ينسى في يده الكأسَ فيشربُ
أطراف أصابعِهِ
ويقول لنا: نسيتني الأنثى البحريَّهْ.
هذا يخرج من قمقم زنزانته الروحيّةْ
ويراود أنثى الأعماق المشطورة نصفين
يُجمِّعُ بالشَّفتين زنابقَه
يسجد في أرض الحِّريَّهْ
هذي تتجّرعُ خيبتَها وتفورُ على سطح الكأس فقاعاتٍ
فكرتُها أدنى من كعبِ حذائي، دهشتها بالأشياء
كبذور من بلهٍ، كالطُّحلب تنمو في أقدام الشّعراء
هي ريشةُ عصفور تُطْلَقُ من قوس الإغراءْ
هي ساحرةٌ قادرةٌ أنْ تنتزع العالَم من بين دمائي
لكنّي سأغادرها وأنا كاسرُها فرحاً بملائكةٍ تحملُ
عرشَ جنوني،
ما كنتُ إلهاً، لكنَّ أناشيدَ الحزنِ إلهيّهْ...
ضاع الأفقُ ورائي.
هذي شجرةُ عطرٍ تسندُ ضوء الشَّارع، توقظُ في القلبِ
مكاناً كنتُ أزاحمُ فيه ظلالَ الموت، أمدّ يديَّ إلى
جسدٍ راودني فهربتُ إلى المحرابِ، ففاجأني بعراءِ
صلّيتُ الفجرَ، وكان العشّاقُ معي، أولَهُمُ قيسٌ آخرهم قبَسٌ
وأنا أتلو سِفْرَ الباءِ...
ضاع الأفْقُ ورائي
تابعتُ ضلالي والأرضُ ذَلولٌ لقوافل أحزاني.
أعرفُ من مرَّ هنا، مَنْ مات هنا، من ضاجعَ سيّدةً،
مجزرةً، أمَّةْ
من أنشدَ شعراً أو أطلعَ نجمَةْ.
غبشُ الذَّاكرة انقشعَ الآنَ، اتضحَ الغامضُ، إذ
شعشعتُ من القلب ثريّا كارثتي ضَّوأتُ الظَّلمَةْ.
ضاع الأفْقُ ورائي.
وجمعتُ نهودَ بني جنسٍ وعقدتُ بها قمَّةْ
استلقيتُ على شرفتها، حّرضتُ النّهد على الحلمَةْ
يا سيّدُ أنتَ تدلَّ عميقاً في شفتيَّ
ودَعْ عنكَ غبار الحكمَةْ
وتفتّحْ كسماءٍ أرحلُ فيكَ بما شَبَقُ الرُّوح يسيّج جنَّاتي
يا نهدُ أضئني وابعثْني من أرض الأمواتِ...
وتئزُ الخمرةُ في رأسي.
وتشظّيتُ بعيداً
كنتُ أحاولُ نَسْفَ جدار القبر الزَّاحف نحوي
هذا جسدي يتهيَّأُ للإخصاب فغادْرني يا موتُ،
سأجمعُ كلَّ هداياكَ البيضاءِ لتتركَ لي وقتاً يخفقُ فيه
القلبُ ويُحْرَقْ
وتئزُّ الخمرةُ في رأسي.
أحيا في حجم الخطوةِ حين أمشِّطُ ريحَ جنونِ اللَّيل بأهدابي.
وأخاصرُ قامة إحباطي
أُنْهِضُ أشلاءَ الوقتِ، وأبصرُ زحفَ النَّمل على بيدر ذاتي
فأنادي أنثايَ تردّ الشّبّاكَ فهذا اللّيل سينهَبُنا...
رُدِّي حتَّى ثغرَ المفتاحِ فهذا الخارجُ يقرفني
وأتمِّي حفلَ عرائكِ، عرِّيني،
لم يبقَ سوى داخلنا نعبدُه
فيه فرحٌ محجوبٌ عن أهل اللَّغْوِ
فيه شروقٌ لا يشهَدُه
غلبتني النَّشوةُ، أثقلُ من كابوسٍ جمجمتي
أصغَرُ من قطرة ماءٍ هذا العالَمُ، بل أصغَرُ من
حلمي لكنّي متَّسعٌ، مفجوعٌ أنّي أقدرُ أكتنزُ العالمَ
فيَّ وأطويهِ
شفّافٌ ماءُ القلب ومنهُ أرى
جسدَ الكون تضاءلَ حتَّى غرقَ الكونُ بقلبي
أملكُ أن أتلاشى بالكون ولكنّي ممتلئٌ بمهاوٍ
تتصاعدُ منها أشجارُ اليأسِ
يتربّع فيها الثَّلج على نفْسي..
غلبتني الغفوةُ، حين مددتُ لساني
في وجه الملكوت الأعلى
وشددتُ على جسدي أعضاءَ امرأتي
وتداعينا
حتَّى كُتبَتْ فينا لغةُ الشَّمسِ...
_________
15/5/1992