كائنات الظلام - علاء الدين عبد المولى

حزيران/ 1993‏
أدعو الكلام يضيءُ أدمغَةَ الترابْ‏
يزني بها الليلُ المدجَّجُ باليباسْ‏
لتطوف فيها نطفةُ الرؤيا العقيمْ‏
هذي بصيرتكم طوتْها كفُّ مأساةٍ‏
فما عادت تسمّي الشعر مملكةً‏
ولا الموتَ المكرَّرَ في وريدِ الشِّعرِ كرسيَّ الولادةْ‏
أنا وارثُ الإيقاعِ من نسل الجحيمْ‏
أبناؤكمْ يتناسلون من الحجَرْ‏
أدعو الفراغ يحلْ في معناكمْ حتى الأبدْ.‏
أدعو غيومَ الرّوحِ تمْلأُ بالنّحاسْ‏
تسقي بكم شغَفَ الغيابْ‏
غبتمْ ولا عتبٌ عليَّ حضورُ إيقاعي إليكم.‏
لا، ولا عتُبُ على أشلاء هيكليَ المشعَّبِ‏
إنْ صَحَتْ وبكتْ عليكم.‏
ميلوا على جهة الظّلامِ،‏
فوحده مولاكمُ القدوسُ،‏
وانهمروا على مستنقعِ اللّغة القديمْ.‏
أنا قارىءٌ فيكمْ متاهَ القلبِ‏
إذ يُحشى بحلوى الغَيْبِ،‏
غيبوا يا صنوف اللَّيل غيبوا.‏
خَدَرُ الإلهِ يضمّ أعينكُمْ،‏
ويوقظكمْ إلهٌ من نعاسْ.‏
ينأى بكم منفى الضَّبابْ‏
تأتون بعدَ حرائق الشِّعر العظيمْ‏
وتعاتبونَ أصابعَ الشّعراء تملؤها خواتمُ من لهبْ‏
وتعاتبون.. وأنتمُ سرُّ العَتَبْ.‏
... ... ...‏
للشِّعر بستانٌ يسيَّجُ بالعيونِ الكاشفَهْ،‏
ما خلفَ أحجامِ الغيومْ:‏
هذي تمرّ شفيفةً‏
هذي تحاولُ خائفهْ‏
تلك التي شلَحَتْ معاطَفها الغزيرةَ فوق أرضٍ ناشفَهْ‏
تلك التي خانت عروق العاشقينَ،‏
فكاثرتْ فيها السّمومْ‏
والشِّعرُ بستانٌ ستنخرُهُ العيونُ الزَّائفهْ.‏
زيف يغادرُ من ممرَّاتِ القلوب إلى أجنَّتكم‏
يورِّثها كنوزَ خطيئةٍ تُقْصي كلامَ الفجرِ‏
عن شهواتِهِ‏
وتعيدُ ناموسَ العباد لمُبتدا ظلماتِهِ،‏
زيفٌ يقشّركم،‏
تهرّ ضلوعُكمْ ورقاً خريفياً‏
وتنطلقونَ خلف ظلالِ فردوس النُّجومْ.‏
لا تقربُوا محراب شعري إنَ وقفتُ مصلّيا‏
في أمّة متداعيهْ‏
أنتمْ سكارى بالقطوف الدَّانيهْ‏
في جنَّة تُملي وصايا النّار من شرفاتها فوقي‏
وحيدٌ واحدٌ، متوحدٌ، مستوحدٌ،‏
وحدي أوحّدُ برجَ وحدانيةٍ متهاويهْ‏
لا تقربوني...‏
عاشقاً يتحوَّلُ الروحُ المجسَّدُ فيَّ،‏
منهمراً قناديلاً على أطفال أغنيتي،‏
دعوا أطفال أغنيتي يباركهم أبٌ ترقى‏
خطاه فوق أعناق الطحالب‏
خالقاً يغدو هيامي بالخرائبِ‏
ناطقاً بلسان مقبرة الكواكبْ‏
سأحلُّ في كفن الكلامِ‏
أجمعُ الأمواتَ في صُوُري،‏
وأنفخُ في الجهاتِ‏
تهبّ أصنافٌ وألطافٌ، وأنسابٌ وألقابٌ،‏
وينفتح المدى من خطوتي.‏
وأقولُ تلك قيامتي‏
وحدي/ وهذي أمَّتي‏
حطبٌ لنار الهاويَهْ.‏
... ... ...‏
ناء عن الأرباب معبديَ الدَّفينْ‏
جسدي مسافةُ سجدةٍ‏
مُلئتْ بأشباح الألوهةْ‏
قوَّستُ ظهرى وهو يركعْ‏
والآن يصعدُ طفلُ قلبي فوق ظهري‏
فأقولُ: يا ولدي رأيتك من فضاءِ اللَّه أوسعْ‏
لا ترتعشْ لحذاءِ قافلةٍ سفيهةْ‏
وأهربْ بجلدك من كهوفِ الأوصياءْ‏
أنا ما ولدتَك طائعاً‏
بمشيئة الأضداد والشَّهوات كنتَ،‏
فكنْ بها دنفاً‏
تجادلُ كلَّ أسماء السَّماء،‏
وكلَّ ذاكرة الغبارِ،‏
وتفضحُ الأسرارَ في الأحجارِ،‏
تعرفُ كيف تسمعُ صوتكَ المقموعَ، فاسمَعْ‏
أنا كم فُجعتُ بأهلِ ذاكرتي، فلا... لا...‏
لا تدعني يا بنيَّ بوجهك الورديِّ أُفْجَعْ...‏
... ... ...‏
الآن جمهورُ الظَّلام ينامُ في نجم الثُّريا الغائبَهْ‏
ضيَّعتُ فيهم خطوتي زمناً،‏
ففاجأني بأنّي كنت أملأ مهجتي بدم العَدَمْ‏
هو مستريحٌ في سراديب الدّعاءِ،‏
مغيباً عن موتِهِ اليوميِّ،‏
حيثُ الكونُ بالغيبِ انقسمْ .‏
وعباده يستنفرون خيول إسراءٍ وصَلْبٍ،‏
كي تغادرهم شياطينُ الألمْ.‏
هم يقرأون (الغاشيةْ)‏
وكأنّها لغةٌ بلا جسدٍ...‏
أفاعي القتل تغشاهم كأنَّ السَّمَّ‏
يطلق فيهمُ وحشَ الفَرَحْ‏
فيراقصون رصاصةً وينادمون هراوةً تُفْتي بتكفير الفراشةِ‏
إذ تفكر بالعطورْ‏
من ههنا مرُّوا، وكانتْ نبتةُ الأفيون حاديهم‏
لأن يجدوا المباهجَ في تلاشي الرُّوحِ‏
في حلُم قصيٍّ لا يُرى،‏
يمضون أسمالاً من النسيانِ، يفتتحون وعداً مُضمرَاَ‏
ليتَ المسافةَ علمتْهُمْ لهجةَ الإبحارِ في وجع السّؤالْ‏
عن أيِّ شيءٍ... أيّ شيءٍ... أيِّ شيءٍ لا يقالْ‏
مرّوا سهاماً نحو فردوس يُعادُ‏
ولا يعيدُ القلبَ نحو الاشتعالْ.‏
فردوسهم زمنٌ تضاءلَ، أو تطاوَلَ، حَسْبَ شكْل الابتهالْ‏
ليت انكسارَ الوقت علّمهم لغاتِ الموتِ والميلادِ،‏
ليت ظلامَهُمْ ألقى بهم برقاً لأشجار الكلامْ‏
يا ليتهم‏
يا ليتهم‏
يا ليت جمهورَ الظَّلامْ.‏