حرائق تحت لسـان المغـني - علاء الدين عبد المولى

سلاماً أيّها البرقُ اليماني
تُمَدُّ إليكَ من ظمأٍ يَدانِ

فثقِّبْ جَوْفَكَ المطريَّ فوقي
لينسكبَ الرَّبيعُ على جِناني

ذئابُ الثَّلج ما تركتْ ثماراً
يعتّقها المغنّي في الدِّنان

أأسكرُ والأقاصي ليس تدنو
ولا أنا من ربيع الحلْم دان؟

أؤذ‍ّنُ في الفراغ لعلَّ أنثى
تصلّي إذ يوافيها أذاني

فتحتشدُ الوحوشُ بباب كوخي
ويا أُنْسي بوحشٍ قدْ أتاني

أضمّدهُ بأسمالي، وأُلقي
إليه ما ترمَّدَ في الأواني

وأُدفِئهُ على جمرات قلبي
(( وحين اشتدّ ساعده رماني))

سلاماً يا صقيعَ الكون، هذا
جحيمي الدّاخليُّ دماً سقاني

ويا منفى الوجود إليكَ عنِّي
ففي جنبيَّ تابوتٌ حَوَاني

حوى أخوَيْنِ آخٍ منهما إذْ
ألحَّا في الغياب وغيَّباني

بنيتُ لَوهْمِ قبرِهما مزاراً
وما دَرَيَا بأَنْ قدْ هدَّماني

أقمتُ على رثائهما سماءً
بها من تيهِ رَمْلٍ ظلَّلاني

هما وجهان يحترقان نأياً
ويْقْتَطَفان من شجر الدُّخان

وكان أبي يُرَبيّني يتيماً
وكانا قبْله قد يتَّماني

على قَبْرَيْهما مِيلا قليلاً
لدى رأسيهْما حَجراً ضَعاني

أقبّلُ فيهما أشلاءَ غَيْبٍ
تشظىَّ، فاحتواه توأمان

وكانا عاريَيْن بلا زهورٍ
خُذا عُرْيي المؤبَّدَ والبساني

ضممتُ إلى رفاتهما رفاتي
وأشعلْنا الحنانَ من الحنانِ

هو القَبر الممدَّد ملءَ كَوْني
فيا أخويَّ لطفاً أقْبَلاني

عصيتُ على الرّكوع لغير قبرٍ
عليه تطولُ دهراً ركعتان

أسبّحُ باسم عائلةٍ خرابٍ
بأيِّ شهيدِها ستكذّبانِ؟

ونحنُ القَهْر أمَّتُه ترامَتْ
فقامتْ من رؤانا أمَّتانِ

وإنّي شاعرٌ رفعَ المآسي
على كتفَيْهِ نعشاً للزَّمان

أطوفُ على المشانقِ وهي أَدرى
بفجرٍ فيه عُلّقَ عاشقَانِ

وما للموت ذاكرةٌ، فإمَّا
نسيتكما فقُوما ذكِّراني

وليس على بقائكما اعتمادي
ولكن... مَنْ يُهَوِّنُ مِنْ هَواني؟

أبيتُ على فِراشٍ من جنون
وأُغرِقُ في دمي سُفَنَ الأغاني

وأحشو جوفَ جمجمتي نسوراً
تُنَاهِشُ جثّةَ الحلمُ المُعَاني

أكوّرُ في يدي جسدي المعرَّى
أراقبُ كيف يرقُبُني مكاني

أحدّقُ في التَّأمُّل كيف يجثُو
فقيراً، وهو محتَشَدُ المعاني

وأنبشُ قبريَ الرّوحيَّ حتَّى
يضجَّ قيامةً عليا كياني

طبولُ الحزن تقرع تحتَ جلْدي
ويرقصُ داخلي كالأفعوانِ

يكادُ يشبُّ بالأشعار قَلْبي
ليلعقَ من حرائقها لساني

أيا ((متنبّئَ)) الآفاق ، روحي
يُعاني فوق روحكِ ما يعاني

كواكبُ أمَّتي غَرقتْ خياماً
وأُلقِيَ في المهاوي المَشْرِقان

نخيلُ الأرض مكتنزٌ حديداً
ودجلةُ شُقَّ عنها دجلتانِ

وتنشطرُ البلادُ، فكلُّ بيتٍ
تحاربُ تحت سقفهِ دولتان

وبغدادُ اليتيمةُ بطنُ حُبْلى
تبَّرأ مِنْ بنيها الوالدانِ

ليالي الشَّرق عرسٌ بربريٌّ
تُزَفّ جنازةٌ في كلِّ آنِ

أحرّكُ جثّةً هُتِكَتْ فتصحو
وتأكلني، فتكبَرُ جثَّتان

أيا متنبئّاً أنبئْ نشيدي
أيرقصُ في خراب المهرجانِ؟

وقيل: لكلِّ مفجوعٍ بيانٌ
ووحدي كان فاجعتي بياني

خيولُ الشِّعر تهوي وهي خلفي
إذِ افْتُتِحَ الرّهانُ على الرّهانِ

لكلِّ شويعرٍ منهُمْ فضاءٌ
وكمْ ضاقَ الفضاءُ على حصاني

((على قَلقٍ...)) فيا أبتي أأطوي
كتابَ العمر أبحثُ عن أمانِ؟

ولدتُ وتَحْت جلدي نابُ أفعى
تفحُّ السمَّ شِعراً في جَنَاني

وكان الوقتُ أقصرَ من ذراعي
فرحتُ أعيشُ دَهْراً في ثوانِ

كبرتُ، وليتَني ما زلتُ طفلاً
أخبّئُ تحت أقمطتي بَنَاني

أمدُّ لأقطفَ الأقمارَ كفِّي
فتسقطُ قرب رأسي نجمتانِ

أسافرُ في حرير الصَّدر جُوعاً
تخيّم فوق مهدي حلمتان

أيا متنبّئ الآفاق خُذْني
فهذا ليسَ يا أبتي أواني...

________

حزيران 1993