مرثية للرُّبا الأولى - علاء الدين عبد المولى

يا رُبا... ما ذلكَ الصَّوتُ الَّذي ينهضُ من‏
أعماقِ هذا المشهد الرّاسخِ في الحزن‏
وأحلام الرّحيلْ؟‏
قربَ أعشابِكِ مَرَّ العاشقونْ‏
مرّت الأحصنةُ التَّعبى، وخلّتْ‏
عند أقدامكِ جمراً للصَّهيلْ‏
تقعدين الآن في ذاكرة الأرضِ‏
تسوقين فراشاتٍ وأزهاراً لخلاَّنٍ يتامى‏
وأباريقَ اشتهاءٍ وجنونْ‏
لأرى بين يديك العمرَ قنديلَ لغاتٍ‏
وأشمَّ الوطنَ الذّائبَ في أنهارِكِ الأولى‏
فأصطادُ بقايا لؤلؤٍ يرسبُ‏
في قاع مياه الذّكرياتْ‏
يا رُبا... طينُكِ مرآةُ شعوبٍ خذلَتْها الأضحياتْ‏
ضاع من بين يديها عسلُ الحلْم وأثداءُ اللَّبنْ‏
وحدها الأطلالُ في سِفر التَّداعي‏
شاهدٌ يُقْرَأُ، أو يُكْتَبُ، أو يُرْشَقُ في وجه الزّمنْ‏
كم خلودٍ حولَ عشبِ البئرِ جاوزناه؟‏
يا رابيةَ الماضي،‏
ويا مهدَ الرّبوبيّةِ في قَصْر السُّكارى‏
تلدين الآن أجراساً وترتادين أعراساً،‏
وتنسين على بوّابةِ الرّوح طيوراً‏
حوّمتْ دهراً، وآبَتْ من بواديها حيارى‏
في ثناياكِ رمتْ آلهةُ الرّعد بذارا‏
لتعاني غسقَ الحَمْلِ،‏
ويعطي رحُمكِ الأرضيُّ أقماراً صغارا‏
نحن يا رابيةَ الرّبّ وقفنا‏
نرجمُ القحطَ بحبّات الكرزْ‏
بأصابيعَ من الرَّيحان نبني‏
لبيوت الحُبِّ في الظّلِّ ستاراً وستارا‏
نرسمُ الأعناقَ من كَنْرِ خيالاتٍ تمطّتْ‏
ترقبُ القادمَ من خلفكِ../‏
فرسانٌ أتَوْا، ضلّوا،‏
وصلّوا لانبعاثِ الشّفقِ الأخضرِ ممدوداً على سفحِكِ،‏
هل ناموا قريباً وبعيداً،‏
أم مضَوْا من قبلِ أن يسقطَ سلطانٌ من الأحلامِ‏
في مهدكِ؟‏
ماهذا الَّذي يسري ويستشري؟‏
هل الوحشةُ؟‏
أبعادٌ تلاشَتْ‏
وأغاني الرّيِّ في حنجرة الرَّاعي الأخيرْ،‏
كسرَتْ مزمارَها...‏
سالَتْ أناشيدُ البدائيّين كالجرَّةِ قرب النَّبعِ...‏
من يحملُ عنّي جرَّة الدَّمع؟‏
ومن يأخذُ منّي التّاجَ مرميّاً بعرسٍ عربيٍّ لا يُقامْ؟‏
أم هيَ الإلفة، مطويٌّ بها الكَونُ على داخلِه،‏
مستوحداً حتَّى فُتاتِ العظم فيهِ؟‏
كان كوناً من غزالاتٍ وعشّاقٍ وأوتادِ خيامْ‏
جمعتْ نسلاً من الوجدِ،‏
أراقَتْ في اللّيالي الطِّيبَ،‏
والقهوةَ في أحداقِ عذريّين ذابوا في الظَّلامْ‏
حين غنّوا للرّبا الجرداءِ من قمصانها الخضراءِ‏
والتاعوا بفَقْدٍ وانقسامْ‏
ربّ هل دلّلتَ غرباناً وأذلَلْتَ الحمامْ؟‏
وتجلّيتَ بجلبابِ دخانٍ‏
في ليالٍ: حجَرٌ كوكبها،‏
أبراجها مخبأُ دعواتٍ رماها الخَلْقُ‏
لمّا لمَّهُمْ مَهْدُ المنامْ‏
طالت الرّقصةُ‏
والمائدةُ انفضَّ بنو خمرتها عنها‏
وأرواحُ الرّبا حلّت بأنقاضٍ‏
أتى الشّاعر يبنيها‏
يعيد الخصب فيها‏
فرأى أنَّ الولاداتِ كلامٌ في كلامْ...‏
______________
17/أيار/1996‏