مطر يغادر بيته العالي - علاء الدين عبد المولى
هذا صباحٌ باردٌ
لا شكل فيه للنّدى
يأتي بطيئاً من جفونٍ باردَهْ
والشّمسُ تفّاح الجليدِ على حدود الكونِ
تحرسُها الغيومُ البائدَهْ
يا زهرة الذَّهب الفقيرة، جمرةَ الأنثى،
وحمّاماً تمارسُه الحواس العائدَهْ
من رحلةٍ لا تنتهي في صيد ياقوت العَسَلْ
عودي سريعاً قبل أن يطغى الجليدُ
وقاوميه إذا وصَلْ
واستنفري حتَّى مناديلَ العطورِ
لتمنعيه من العبورِ
وغيِّمي فوق اليتامى النَّاهضين من الرَّمادِ
الذّاهبينَ إلى المدارس والمعابد والعَمَلْ
... ... ...
مطرٌ لنا – مطرٌ علينا
مطرٌ تفجّرَ من يدينا
هبّتْ رياحُكِ من يميني
فاتّكأتُ على شمالي
واشتعلتُ كغابةٍ ضُرِبَتْ بصاعقةٍ
سأنزلُ من هلالكِ في هلالي
حاملاً قلقَ التّأمّل في رذاذِ الماء
أوشكُ أن أقبّله فأدركُ أنّنا...
مطرٌ يغادرُ بيتَهُ العالي ويجلسُ بيننا
نبكي قليلاً، بل... قليلاً.
ندعُ المكانَ لعابريهِ
نحاولُ استحضارَ ما يدعو اليدين إلى الصّلاةِ،
وأن نردّ إلى حرائقِنا الجميلَ
لمن أقولُ: أحبّك الحبَّ الَّذي
يلدُ الخيولا؟
في أيّ منعطفٍ أميلُ عليكِ مكتسياً حقولاً
أضعُ العلامةَ فوق صدركِ
والحمامةَ فوق ظهركِ
ثمَّ نبتدئ الرَّحيلا...
... ... ...
مطرٌ على شفتيكِ، في شفتي جحيمْ
عيناكِ لؤلؤتان من قلقٍ
مهيّأتان للإسراء في أفقٍ
أسوقُ به الفضاءَ على مزاجي
حين من موتي أقومُ
وأنتِ شاهدةُ انبعاثي
أنتِ أسئلةٌ تفضُّ بكارةَ المعنى
وأجوبةٌ مزيجٌ من مكاشفة الخمورِ
وقد تنادَتْ نحو خلوتنا الجرارْ
لي أنتِ: دهشةُ غابةِ النّسَّاكِ في طور التَّجلِّي
وغموضُ أحوالٍ،
حجابٌ لا يدومُ إذا انتخبتُ له براقاً
أخضراً يعلو ويُعْلي...
... ... ...
بصّرتُ في مطر فأنبأني بأنَّكِ...
أو بأنَّهُ...
آه ممَّا قاله فيك المطَرْ
فرفعتُ مهداً في الهواءْ
نامي على عَبقِ الوسادةِ واختفي
في غفلةٍ عن نشوة الظّلماتِ
يفتحُ بعضُها بعضاً وقدْ غُلبَ القَمَرْ
وترحَّلي عبر العباءات الخصيبةِ
عودةً أبديّةً تحنو على ضعفِ
السَّنابل من خيانات الشّتاءْ
كوني إمامَ الياسمين المنتظرْ
وخذي الحمامَ جميعَهُ
والشّمسَ إنْ طلعَتْ وغابَتْ في السَّحابِ
متى عَبَرْ
غيبي كثيراً عنكِ كي تجدي مكاني في السَّماءْ
وانسَيْ كتاب الشّعر تحت الماءِ
سوف تسيلُ منهُ قصائدٌ عذراءٌ
زرقاءَ الصُّورْ
الشَّاعرُ الماضي يحلُّ الآنَ
يأتلفُ المجازُ مع الحواسْ
والقلبُ، هذا المنجمُ الكونيُّ من ذهبٍ وماسٍ
سوف ينزعُ عنكِ آخر وردةٍ
ليراك أنثى لا خَيارَ لها سوى الأنثى
وقد سكنَتْ بجنَّتها
تُسلسِلُ في ضفيرتها النّجومَ
تحرّرُ الرمَّان من أغصانِهِ
وتغضّ طرفاً عن تفتُّحِه
وتحرسُ سلّةَ التفّاحِ من أجلِ الوعولِ القادمَةْ
... ... ...
سأعودُ من تلقاءِ نفسكِ نحو نفسي
وشماً على جسد الرَّحيقِ
محمَّلاً بحديقةِ سهرَتْ على أسوارِها
أشباح كأسي
ووطئتُ أرضَ الخمر تبلغُ بي سماءٌ اسمَها
وهطلتُ أهذي لابتكارِ فراشةٍ تصحو
على شبق السّراجِ وقد تداعى فوق رأسي
يا بنتَ لاهوتِ الغيوبِ
وسرَّ ناسوتِ القلوبِ
لتدخلي من ظلِّ أغنيةٍ تقيمُ به الإلهةُ طقسَها
لأطيلَ عُمْرَ العطرِ في نهديكِ
أمنحُ للمدائح جنسَها
ويضاءُ في عينيَّ قنديلان يختصران فيك
الذِّكرياتِ وعكسَها
ولتهربي من بيتِ أمسِكِ نحو أمسي
وتمتَّعي بمحارة الرَّغباتِ
هابطةً بوحْيِ جمالِها في غارِ عُرْسي...
... ... ...
لا تسألي عنِّي سواكِ
ولدتُ منسيَّاً،
ومنسيَّاً سأحملُ هذه الأرض الثّقيلةَ
مثل موسيقى الخرابِ
فنظّفيها من حروبٍ
هرَِّبي غاباتِها من ليل قطعان الذّئابْ
حتَّى أميّز صفوَها من قاتليها
... ربَّما أخطأتُ في تشييد برج لا يُنالُ
وربما أوقعتُ نفسي في شِراك الرَّمزِ
أو وادي الضَّبابْ
عاينتُ أكثَرَ ضَعْفَ هذا العالم الماضي
بلا حسٍّ إلى فِقْدان لذَّته
أمام المسرح الحجريِّ مكتظّاً
بأقنعةِ العبادِ يحاكمون طغاةَ ماضيهم...
وهل يقوى النَّسيمُ على الطّغاةْ؟
لو كان لي حقُّ التّدخّلِ في الطَّبيعَهْ
لقطعتُ نسلهُمُ جميعَهْ
واخترتُ من نبعٍ نطافَ الكائناتْ
وأعدتُ تشكيل الحياةْ...
_____________
12/11/1999-24/4/2000