سفر في مخيلة الحبر - علاء الدين عبد المولى

وقرعتُ بابَ الحبرِ،‏
بستانٌ وراء الحبر مختومٌ،‏
خذيه ونظِّفيه من البقايا اليائسَةْ‏
ليحلَّ في جسدي صباحٌ من حواس غامضَةْ‏
وأضمّ أحلاماً بأطفالٍ غسلتُ خطاهُمُ‏
وتبعتُ عطراً في ضمائرهم وقلتُ تدفَّقوا‏
بين الضّحى واللَّيل،‏
هذي الأرضُ أبوابٌ تقلِّد شاعراً في رقصِهِ‏
فخذوا أراجيح الضّياءِ‏
وقلِّبوا بأكفِّكُمْ هذا التُّرابَ‏
لينجلي ذهباً أشكُّ شعاعَهُ عقْداً‏
لسيِّدةٍ تناولني الصَّباح بكفِّها‏
وتريقُ صوتَ حريرها بين العروقِ اليابسَةْ‏
كم فيكِ بايعَ شاعرٌ قلقاً‏
وأطلق في يديك شتاءَهُ‏
فاستنبتي قمحاً يباشُرهُ‏
فإنّ الروح أوّلُه كلامُ القمحِ في جسدٍ قديمْ‏
وصدى أجنَّته يسافرُ في بروق الأرضِ‏
يسكنُ أيَّ ينبوعٍ فضائيٍّ تفجَّرَ‏
أزرقاً من سرَّةٍ نشوى لآلهة الجمالْ‏
هذا الجمالُ خطاب فلاَّح إلى مطرٍ‏
رسالةُ طفلةٍ لدُمى المساءِ‏
عناقُ عشّاقٍ‏
ورعشةُ شاعرٍ في كأسِ ضوءٍ باذخٍ بالياسمينْ‏
هذا الجمالُ ازّيّنتْ منهُ حدائق بابلَ العليا‏
تماثيلُ الألوهةِ في زمان الصَّيدِ...‏
هل تتذكّرين بدايةَ الظّلماتِ‏
كانت هذه الأرضُ الفَراشَ الأنثويَّ‏
رحيقُها الأجسادُ يمزجُه العبادُ لربَّة الإيقاعِ...‏
هل تتذكَّرينْ؟‏
كانت أنوثتُكِ القصيَّةُ عرشَنا البحريَّ‏
عودي نحو كوخِ الغابةِ العذراءِ‏
نصطادُ الثّمار لطفلنا‏
وتشعّ بين معابدِ الأعراس فطرتُنا‏
تضيءُ على جموع الشَّاكرينْ‏
والآن أنتِ هنا، هنا،‏
تتأبَّطين صباح قيثارٍ‏
وتنسربين بين أنامل الوقتِ‏
المبلَّل بالغموضِ وتهربينْ‏
ولكِ القصيدة تنحني‏
امتلئي بهذا المشهد الشَّتويّ‏
سوف أُعِدّ أبراجاً لصوتِ حمامنا‏
وألمّ أسحاراً أزيّنُ من كواكبها نباتَ سلامنا‏
سأكونُ أوّلَ من يراكِ هنا،‏
وآخرَ من يراكِ هناك في سُحب الرَّبيعْ‏
لا تفرطي في الصَّحو، هذا الكونُ ذئبيٌّ مُرِيعْ‏
فلتدخلي ملكوت مائي نرجساً‏
ولتجلسي في طاقةٍ زرقاء تربطني بعالي الغَيْمِ،‏
يدهشني رنينُ لسانِكِ الشّعريِّ‏
يُطْلِعُ من يديَّ حديقةً‏
أُبلي بلاءً سرمدياً في مداخلها‏
وأستبقُ الجميعْ‏
هل جاء قبلي شاعرٌ بالحَدْسِ يمعنُ في خطاه إليكِ‏
منذ بكيتِ وانكسرَتْ بوجهكِ غيمتانِ‏
فوجدتُ باباً للأغاني‏
كان النَّشيدُ مجنَّحاً بيديكِ،‏
حلّقْ سيّدي الإيقاعَ‏
لسنا هامشاً في آخر السَّطر‏
الوجوديّ الأخيرْ‏
نحن الكتابةُ أوّلاً‏
والقلبُ حبرُ دعائنا السّريِّ‏
حين نضيءُ في اللَّيل الضَّريرْ‏
... ... ...‏
والحبُ يأخذني إليكِ...‏
للحبر- هذا السيد الخلاَّقِ- بوصلةٌ‏
أسافرُ خلفَها وأضيعُ من شطٍّ إلى شطٍّ‏
أوزّعُ في المتاه رغائبي‏
أُلقي- يميناً- بَرْقَ أعيادٍ‏
وأشعل في الجنوبِ‏
شفقاً يدلّ على حبيبي‏
فإذا وصلت إلى الشّمال‏
رفعتُ قلبي خرزةً زرقاء تدفَعُ عنكِ‏
شرَّ الحاسدينْ‏
ورميتُ أمتعتي على بابٍ مصابٍ بالحنينْ‏
وغرقتُ في موجٍ تبعثرُه يداكِ‏
فهل أعودُ بسلَّة مثقوبةٍ‏
تلهو بها ريحُ الهلاكْ؟‏
... ... ...‏
الآن يختمرُ الرَّحيلُ إليكِ‏
عبرَ الشَّاعرِ الجوَّال يحملُ في يديه كراتِ نارٍ‏
أطفئيها في يديكِ‏
ردِّي عليَّ جنونَ ريحي‏
واهربي لأراكِ أوضَحَ...‏
آهِ من لغزٍ يخبِّئهُ وضوحي...‏
شكراً لصوتِكِ، لو يهذِّبُ لي جموحي‏
أو يستعيرُ من الوصايا حكمةً أولى‏
دعي سِفْرَ الوجودِ بلا دليلْ‏
في الوقت نارٌ زورقي فيها يغامرُ‏
لونها عسلٌ نبيذيٌّ‏
وزرقتُها بنفسجُ صدركِ الظَّمآنِ‏
أصعَدُ في لهيبكِ‏
ثم أولدُ طائراً يرثُ الفضاءَ المستحيلْ‏
فأرى القيامةَ صورةً للموتِ‏
يا موتي الجميلْ.‏
جمّلتِ أوراقَ القصيدَةْ‏
واخترتِ كرسيّاً قريباً من عواصف موسمي الآتي...‏
أخاف عليكِ وحشاً مخملياً داخلي‏
يمضي ليلْتهمَ الرَّغيف الأنثويّْ‏
ويعود نحو ضلوعِهِ متداعياً يبكي‏
ويُخْفي عنكِ صرختَهُ البعيدَهْ‏
أقرأتِ في عينيَّ صوفيّاً يدمّر ذاتَهُ‏
ليعيدَ تأليفَ الدَّمار؟‏
أتصدّقين نحيبَ مزماري؟‏
ضعيني داخلَ المرآةِ وارتجفي قليلاً‏
أنا لستُ خابيةً معتَّقةً من الأفراح‏
لكنّي أحاولُ أن أمرَّ على الحياةِ‏
كشاعرٍ يلدُ الحدائقَ من يدَيْهِ‏
أو يحاول أن يضيء لها سبيلا‏
هل كنتِ من عرَّيتُ ذاتي في سرائرها‏
.. وكنتِ جميلةً‏
تصغين للبحر المكوَّر في يدي‏
يلقي عليكِ حشودَ أسرارٍ...‏
أكنتُ إذاً جميلا‏
قلتِ القصيدةُ مستحيلَةْ‏
هل كان بحري مستحيلا؟‏
أطلقتُ فيكِ زوارقاً زرقاءَ...‏
سيري في الزمَّانْ‏
ولتكسري بخطاكِ بضْعَ حصىً،‏
ضعي نيسانَ بين يديكِ،‏
صوغيه مكاناً للمكانْ‏
رشّي عليه رنينَ قلبكِ،‏
خائفٌ نيسانُ، أعطيهِ الأمانْ...‏
وتوهَّجي بين الخيال وظلِّه‏
كأذانِ فجرٍ نازلٍ فوقي‏
أساوِرُهُ تفتِّتُ في شغافي رنّةً‏
كسقوطِ أغنيةٍ من الفيروز في حضنٍ من الياقوتِ‏
آه ما الذي فعل الأذانْ؟‏
بمعابدٍ مهجورةٍ في الرّوحِ؟‏
كنتُ جمعتُ فيها عاشقاتِ الضَّوءِ‏
صلّينا معاً فرضاً وفوضى‏
لكنَّني في آخر اللّيل اليتيم تُرِكتُ وحدي‏
لا أرى إلاّ السَّماء تمدّ من نجماتها الزَّرقاء أرضا‏
أرضاً أمارسُ وحشتي معَها‏
أعمِّر جنّةً بيديَّ أحرسُها ليبقى‏
الدَّاخلون إلى عرائشها معي...‏
هل تدخلين الآنَ؟ بعد غدٍ؟‏
رضيتُ بأن تمرّي لمعةً في البالِ‏
أو صوتاً شتائياً على بلّور هذا الفجر‏
كي أزدادَ إيماناً بأنّ الكون يبدعُ خالقَهْ‏
... ... ...‏
للحبر بوصلةٌ...‏
ورثتُ طفولةً سأزورها يوماً، أعاتبُها،‏
أهشّم صرحَها، وأفرّ نحوكِ، فازرعيني واحصدينْ‏
هذي حقولي غربةٌ هجمَ الحنينُ على سنابلها‏
وغادرها غناء الزَّارعينْ‏
وعليكِ أن تتجمَّلي بالماء، هذي رحلتي طالَتْ وطالَتْ‏
وعطشتُ... والأنهار مالَتْ للجفافْ‏
صعدتْ جبالاً واستقالَتْ من ولادتها‏
ولم تسقي النَّبات ولا الخرافْ‏
فإلى متى تغتالني الصَّحراء من ظَهري‏
وكنتُ على هواجسها أخافْ؟‏
... ... ...‏
الحبر أغرقني، شربتُ صدى مخيِّلتي‏
وتابعتُ السّفرْ‏
فوجدتُني في الرّيح ملقىً كالحَجَرْ‏
___________
2/4/1998-7/11/1999‏