مراثي عائلة القلب - علاء الدين عبد المولى

- (فصل التوأم)-‏
شباط/1992‏
الثَّلجُ غطَّاهُمْ تماماً‏
جسدين من أرجوحة العدم‏
يتمايلان، ويشعلان بنا الهياما‏
لنغيب في صحراء من ندم‏
العاشقان تعانقا، وجها لوجهٍ ثمَّ ناما‏
وتفرَّقا في دولة الحلم‏
فتفَرق الشّعراءُ، واختصروا الكلاما...‏
... ... ...‏
القلب أبيضُ من نثيث الثَّلج، أبيض من حليب الأمهاتْ‏
فبأيّ معجزة تدلّى من فراغ المدخنَهْ‏
فحماً واسفلتاً؟، وزيتا شلّ أجنحة الطّيورْ؟‏
يا عاشقي! في ظلمة الدَّعوات أستلقي،‏
فخذني نحو مهدكَ، واحمني من رعشةٍ لا تنتهي.‏
آليت أن أمشي وراء الصّمت في عبث المدى‏
لكنّ موتاً طارئاً سرق النَّشيد وهزني‏
فسقطتُ من نخل التأمل تمرةً ضجتْ بولولةٍ:‏
(( أُكِلتُ... أُكِلتُ..))‏
هذا القلبُ أبيضُ من نثيث الثَّلج،‏
كيف سينحني فيه الدّخان؟‏
ياعاشقي رويّتُ حنجرتي بماء المسكِ،‏
وانشقّت ضلوعي فانسكبتُ مغنّياً:‏
يا عاشقي‏
يا عاشقي‏
ربُّ المآسي خالقي...‏
... ... ...‏
الثّلج غطَّاهم تماما‏
... ... ...‏
أنا لا أقول لكم وداعاً، سوف تدخل نحلةُ الدَّم مضجعي‏
وتفيض خاصرتي عبيراً فاسبحي يا نحلتي‏
أنا لا أجنّ بكم رثاءً،‏
منذ دهر شلتُ قبر أبي على ظَهري‏
ودرتُ به الممالكْ‏
هذا أبي يا نسل آدم يا تراثاً من مهالِكْ‏
سرقتْهُ مركبةُ البياض،‏
وردّدت أشلاءُ صوتي صرختي‏
فانهار برجٌ من حمامْ‏
قبر يسمِّيني تراباً، أو أسمِّيه خطا‏
في رحلة الطّغيان والإعدام.‏
قبرٌ آخر، قبرٌ بمتَّسع الرِّمال‏
يضمّ أربع أعينٍ، وبصيرتين، وتوأما،‏
أنا لا أقول أخي، ولكنَّ المفاصل ترتخي‏
فتمايلي يا أرض وانشرخي...‏
رأيتُ.‏
/أكلّما سقطتْ من الملكوتِ جمجمةٌ رأيتُ؟/‏
هي الجماجم دحرجوها نحو أمِّ النَّخل‏
في شرق المتاهةْ‏
وهي المتاهةُ: كهفُنا السّريُّ، نولدُ فيه، نسقطُ فيه،‏
لا شفق يضيء ضلوعنا‏
لا أمّة تفدي مغنيها...‏
عميت من البصيرة،‏
لا تعلّمْ داخلي من أبجديّات الوضوح قصيدةً‏
لا شيء أوضحُ من سقوط اثنين:‏
متحدين/ منفصلين، كلٌّ في دم الثَّاني توغَّلَ،‏
أسلما قمر الأخوّة للبزوغ من الرَّحمْ‏
في لحظة قدسيّة...‏
نادتهما عرّافةٌ: ((ستُعلَّقان من الفراغِ))‏
وعُلقا في لحظة دمويّة...‏
إذ كان رأس الكون سرّاً ينقسمْ.‏
الأم قالتْ: لا تغيبا بعد هذا الفصلِ...‏
لكنّ البلاد مريضة‏
والطّقس عكس النّفس، والأبصارُ تبتكر الظَّلاما‏
... ... ...‏
الثّلج غطَّاهم تماما‏
... ... ...‏
العاشقان وأيُّ إفطار يضمُّهما؟‏
رغيفٌ واحد، عنب وتمرٌ،‏
يَقْسمان اللّقمةَ الأولى، ويختصمانِ،‏
لكنّ الهواء مباركٌ...‏
... ... ...‏
صلّى عليك الحزنُ يا جيل الرَّدى‏
ما اهتزَّ في الأخوين عِرْقٌ من ندى‏
... ... ...‏
العاشقان... ولستُ أنسى أيَّ كارثةٍ‏
رمت أفعى الهواءِ المرِّ بينهما،‏
وأيّة سلطةٍ تُملي على القلبين نبضهما،‏
وأيّ فضيلة يدعو لها النَّهر الملوثُ بالصّدأْ.‏
العاشقانْ‏
قرآ فروضَ الوقت تحت القبَّة البيضاء،‏
أو شهدا بأنَّ العرشَ منخورٌ،‏
ويحمله ملائكةٌ حديديّون من عمق التَّعفُّن يولدونْ‏
قالا: ((ستغرق أمّةٌ في لُجّةٍ تتلو بيانَ التّيه))‏
قالا: ((لا تُسمَّى هذه الأمةْ‏
والظّلمةُ العظمى تؤوِّلُ لغزها الظُّلمهْ‏
الأمة انذبَحتْ ونحن الذّابحونْ))‏
العاشقانْ‏
قالا، وغابا في مواعيد الفتونْ‏
هربا من العين الّتي ترمي شعاعَ القُبْح فوق العابرينْ‏
لجآ إلى درج يؤدى نحو أقطاب النّبّوة،‏
واستجارا بالحنينْ‏
وبقيت وحدي، قلت: أقطابُ بالنبوّة تستحيلُ‏
إلى مشانقَ، والصّغارُ إلى يتامى‏
... ... ...‏
الثّلج غطاهم تماما‏
... ... ...‏
عصبي أخطُّ عليه أغنيتي،‏
وأخطفُ كومةً من ثلج صحراء الوطنْ‏
أعطي المدينةَ من هجائي ما يساعدها على‏
أن تدخل المرآةَ عاريةً وناصعةَ البدنْ‏
يا منصف الأصناف أنصفني، فنصفُ القلب منشرخٌ،‏
ونصف الرّوح يغرق في العفنْ‏
يا واعدي بالجنَّة الخضراء‏
سَمِّ الأرضَ جنتنا، فقد تطفو المشانقُ‏
في الطَّريق إليكَ، أو يقف الزّمنْ‏
هل تخرج الكتبُ القديمةُ من مشارق يتبعُ الأخوان‏
زينَتَها؟ هي الكتبُ القديمهْ‏
يعلو الغبارُ عروقَها‏
الأمّةُ العرجاءُ تقتتلُ الطَّوائفُ حول عورتها‏
وتنسى عورة المستقبل البحريِّ فاضحةً‏
هي الكتب القديمهْ‏
تتلو على ملأ القصور المرمريّة سيرة الرُّوح الفقيرِ،‏
من انتمى لجلالة الإنسان...‏
ليس الروح سوطاً في يد السَّجان، لكنَّ الزَّنازين الكتيمهْ‏
تعلو بضجَّتها على غيم المآذن، في نهارٍ‏
يشبه اللّيل المسيَّسَ‏
قال والي الوقت: (( أركلكم بساقي،‏
من يقايض أمّةً بدمائه؟))‏
أميّ/ ومن أسمائها وجع الحنينْ‏
أميّ/ سلاماً من حروب السّجن يحبو نحو دارِكْ‏
أمّي/ سنبقى في نهاركْ‏
فجراً إلهيّا،ً لنولدَ من دماركْ‏
... ... ...‏
... ... ...‏
هذي مراثي قلبيَ الأخويِّ، أَنقُشُ فوق شاهدةٍ سماتِ العائلهْ‏
تنهار شجرتنا الكريمهْ‏
وتضيع ألقابٌ وراء ضياعنا‏
أطفالنا انكسروا كبلّور الحنينْ‏
إمّا رَمَتْه الرّيح.. هل أصغيتُ للصَّحراء تنبض بالجثثْ؟‏
هل هذه الأحجارُ تخْفي قبرَ توأمنا المهاجرْ؟‏
هل قشّرَ التّاريخُ أعضاءَ الزّمانْ؟‏
ورمى جناحُ الطّائر السّجيلِ ما قد حمَّلُوه على جدارِ المعتقلْ؟‏
هل هذه الأحجارُ ناطقةٌ...‏
وحدَّثني صقيعُ الفجرِ أنَّ التَّوأمَ‏
المنفيَّ في سردابِ غيبِ اللَّهِ، تغشاهُ البرودَةْ‏
العاشقانْ‏
هل يبردانْ‏
وهل الزمانْ‏
قذفَ الحنانْ‏
في عمق أغنيتي، لتحترقَ الأغاني،‏
أو يشلَّ هنا اللّسانْ‏
عادت بي الأشياءُ نحو هلامِها‏
من ههنا خرَج الرَّمادُ إلى رئاتِ النًّائمينْ‏
وهنا التقى الجمعان يومَ المذبحةْ‏
قومٌ يسمون الإله- مطيّةً-‏
قومٌ يسمون الإله- ضحيّةً-‏
وتنبّه الثعبان أنّ القلبَ ينبضُ...‏
قفْ عن الدورانِ حول غموض حلْمكَ يا فتى‏
فغداً تودّعُ خطوة الدّنيا وتذهب ميّتاً‏
فلتغتنمْ كنزَ المذلّة قبلَ أن تمضي...‏
يطلُ الذلُّ يوماً بعدَ يومٍ، وهو يخشى أن يراني.‏
في عيوني من جنون النَّسر ما يكفي لأصعَدَ‏
آخر الأشباحِ: لستُ أنا الضَّحيةَ، إنهُ‏
شعبي تراثٌ من أضاحٍ في معابدَ تنشرُ الرّؤيا‏
انقساما‏
الثّلج غطّاهم تماما‏
... ... ..‏
ردَّ الغطاءَ عليهما، ردَّ الغطاءْ‏
العاشقان، وقد دنا عرس اللّقاءْ‏
بأساور السّجن المريض تقدَّما‏
واللّه يغفو فوق رابية السَّماءْ‏
يا مالىء الرّئتين من قدّوس سرّكَ،‏
سُدَّت الرّئتان، واختنق الهواءْ‏
اللّحظة الحمراءُ تنمو كالجحيمِ‏
وتنحني أشباحُها بين الدّماءْ‏
هي خطوة ونكون ظلَّ الحَبْلِ/‏
كالجبلين ينهدان في صمت الرّداءْ‏
هذا رداء الموت خبّأ كوكبين،‏
فكان ليلُ الشّنق مكتوم الضّياءْ‏
في الأرض لم يكن اللّقاء متوَّجاً‏
فليعلن الاعدام فاتحةَ اللّقاءْ...‏
... ... ...‏
رُدَّ الغطاءَ عليهما يا سافح الأمم الفقيرةِ‏
كنتَ لا ترقى إلى أقدامهم‏
والآن أنت مليكُهُمْ‏
تلقي على أجفانهم سمَّ المنامْ‏
وتُعدّ تابوتاً يوحد جثَّتينْ‏
والأرضُ تطوي قمحَها وبحارَها وتسير خلف جنازتينْ‏
يا شيخنا العالي ويا أهل الصَّفاءِ،‏
قفوا وراء الموكب السّريِّ،‏
لا تلدُ المدينةُ غيرَ قاتلها‏
ولا تعفو المدينَهْ‏
غيرُ انجراف الأرض خلف خوائها: غدنا.‏
وغير تفتّتِ الأعضاءِ في قبرٍ: خلايانا‏
جنازتنا هنا والثّلج غطّانا تماما‏
... ... ...‏
يا ثلج يا كفن الطبيعَهْ‏
هذا حبيبي جارحٌ بحلوله في حفرةٍ قبلي‏
وإني كنت منتظراً رجوعَهْ‏
لكنّه وعدٌ سرابيٌّ يضيّعني ويعرف أنَّني بحرٌ‏
أضاعِ به قلوعَهْ‏
الآن واريتُ الحبيب بقبرهِ‏
وجلست فوق القبر منتشياً: /أنا ربُّ الفجيعَهْ/‏
... ... ...‏
رُدَّ الغطاءَ عليهما يا سيِّدي الَّجلاد،‏
أرخِ الصَّمتَ في الآفاق أكثرْ‏
التّوأم العبثيّ يدخل لحظةً عليا ويكبرْ‏
ولدا معا/ ناما معاً/ جرحا معاً/‏
وهنا هنا شُنِقا معاً...‏
الموت أكبرْ‏
الموت أكبرْ‏
صلّى عليك الصّمت ياجسدا تدلّى من ظلام البوح أخضرْ‏
مِلْ نحو وجه أخيك أكثرْ‏
غسل الالهُ يديه منّا، قل لَهُ...‏
والقلبُ محتشدٌ بنبض دم مزَّورْ‏
أحضن يديه وارقصا‏
فهنا إناثُ الغيب إيقاعٌ تفجَّرَ:‏
زغردى أمَّ العريس وردِّدي‏
وادعي صبابا الحيِّ في ليل الغد‏
هذي العروس تقدّمتْ مَجْلوَّةً‏
رُشّي عليها الماء والعطرَ النَّدي‏
زفيّ العريسَ وعانقيه لحظةً‏
من قبل أن يذوى جلالُ المشهد‏
الثّوب أبيض إنَّما هذا المسا‏
كونٌ يُسَجَّى بالفراغ الأسودِ‏
أمَّ العريس وليس غيرُك شاهدا‏
فاذا نسينا ذات يومٍ فاشهدى‏
هو توأمٌ، لكنْ عروسٌ واحدةْ:‏
/المشنقةْ/‏
... ... ...‏
... ... ...‏
هاتوا بساطاً سندسياًيجمَعُ الجسدينِ‏
وليشربْ دمٌ ابريقَ عنبرْ‏
وجهاً لوجهٍ عُلِّقا‏
عينان في عينين:‏
- تذكرُ ذات ليلٍ كنتَ تسرقُ لقمتي في رحم أمّكَ‏
- كان رحْماً دافئاً‏
- ماذا جنينا؟‏
- قلنا لأحجار الشَّتات توحَّدي‏
- فتوحَّدَتْ‏
- لكنْ علينا...‏
... ... ...‏
وجهاً لوجه، يشربُ الجسدان من نور الإلهْ‏
يتناقضان ويجمعان على اكتناه الموتِ...‏
- ماذا تفعل الأمّ العجوزُ؟‏
- بأي آياتٍ سيفتتح الأبُ التَّرتيلَ؟‏
- سوف نموت قبلهما‏
- ولكن، كيف نُقْبَرْ؟‏
... ... ...‏
ردَّ الغطاءَ عليهما‏
واسمح لقرآن الجنازة أن يتوّجَ زفَّةَ المأساةِ‏
ليس لنا الجنازةُ، سوف نُدفنُ في غموض الرَّمل‏
حتّى لا يرى الرّعيان موكبنا البهيَّ...‏
هنا، هنا رحمٌ ستجمعنا معاً‏
ومعاً ولدنا/ ومعا جرحنا/ وهنا نموتُ‏
معاً نموتُ، معاً...‏
... وهذا الثّلج غطّاهُمْ تماما‏
... ... ...‏
أنا لا أسامحُ...‏
من رأى بيتاً تهدّمَ وهو يرقصُ تحت حلمة وهمِهِ‏
أو من تأبَّدَ فوق عرشٍ والخليقةُ فوق نعش...‏
لا أسامح زارعَ الزَّيتون يسرق خيرَ غلَّتِهِ،‏
ويمنحها قوافلَ في الجهات العاهَرهْ‏
أنا لا أسامحْ‏
من ظِلُّهُ علَقٌ يمصّ سلالةَ الأيتام،‏
في قوم من الأحجار يتّخذون آلهةً،‏
ويبتهجون بالأوثان في عفن المسارحْ‏
هرمتْ صفاتُ الأرض‏
ذاكرةُ البلاد تصدَّعتْ‏
والذّئب قوميٌّ، ويوميٌّ،‏
وكلبُ الفكرة العرجاء نابحْ‏
أنا لا أسامحُ،‏
لا أسامحُ،‏
لا أسامحْ...‏