فصل من سـيرة ليسـت ذاتيـة - علاء الدين عبد المولى

سقطَ العالَمُ والأولادُ ناموا/
...
عند ينبوع مياه الفجر ألقيتُ رماد العالم السَّاقطِ،
واستثنيتُ قلبي عندما أوقفتُهُ- أوقفني،
فاشتعلت فيه السماوات وغطّاه الحَمامُ،
فتح الطّفلان عينيَّ وناما فيهما
كان قلبي معبداً من أنجُمٍ
والنَّجمةُ السَّاجدةُ انفضَّتْ عن المَعْبَدِ
واغتيل الإِمامُ،
...
سقطَ العالَمُ والأولادُ ناموا/
ظلمةٌ رأسي وأعضائي ضبابُ
ومعي أفْقٌ توالَدْنا معاً،
لكنه سُدَّ بأبواب الوصايا
بينما كوّرتُ من قيدي طيوراً
كلّما حلّقَ هاديها تلاشى في مدار الحلم بابُ
فلمن أنشئُ هذا المدحَ؟
إن كانت كراسي الضَّوء خانَتْ جسدي؟
أنا لاأسند أعدائي ولاأشلح طيني
وأرى الأمةَ في الفجر تعرّتْ
واستهلّت رحلةَ اليوم بأصوات الهراواتِ...
همُ العشاق ذابوا
وطوتْ أعلامَهَا أمُّ الدَّم القدسيِّ،
وارتاحت من الحرب، وبيعَ الحُلمُ،
وانهارت قبابُ
لاأناديهم، ولا أعصرُ من غيمتهم باكورةَ العمر،
ولاكان لصوتِ الجنّة الأولى جوابُ
كَبُرَ اللّيل، وليلي نسجتْهُ في الممَّراتِ حِرابْ
ورصاصٌ صُبَّ في عينيَّ، فالموتُ انصبابُ...
هل يعودُ الزّمنُ المعجونُ بالحلم إلى بادئِهِ الأولِ؟
لاتقطفْ زهوراً لونُها سمٌّ ورَيَّاها عذابُ
قُمْ دماءُ الفجر تدنو
ودّعِ التَّمرَ
وأطفئْ مهدَ أطفالك،
ودِّعْ زوجةً، قدْ لاإيابُ...
...
هكذا تنفتحُ السّيرةُ ياأللَّهُ
يارازقَ نَمْلِ الأرض تحت الصَّخر،
مازلت أنا المنسيَّ في قافيةٍ مهمَلَةٍ
تنتظُر الشَّاعرَ...
ماذا بعدَ أن شرَّدني جندَكَ وابتاع دمي،
شعبُكَ المختارُ؟ ماذا؟
ألقٌ أم عَلقٌ يرضَعُ عذراواتِنا؟
تُجَّاركَ افتضُّوا بكاراتٍ وساروا في جنازاتٍ،
فَدْعني يا إلهي جاثياً خلف صغيريَّ
تذكَّرْ أنَّكَ اللّهُ
وأنَّ الحُبَّ مختومٌ به البركانُ،
والنّبضَ حرامُ
سقطَ العالَمُ والأولاد ناموا/
شاعرٌ غنَّى ثلاثينَ من العمر بقيثار المراثي
سلّمُ الأحلام مكسورٌ، وهذا البيتُ أضيَقْ
من دمي،
أمّي استقالَتْ من حنانٍ
وأخي عضَّ يدي
وانسابَ نحو القِبلة الأولى،
أمثقوبٌ هو الكون، مشقَّقْ؟
أَهَبُ العالَمُ ألواني، خطى صوتي، وأخطائي،
وخوفي، وخراباتي،
وألقي في دم البحرِ دمي، حتَّى يظلَّ الحلمُ
في الأولاد أزرقْ،
هكذا تنفتحُ السِّيرةُ
كأسي فارغٌ من أصدقاءٍ شربوه واستراحوا
أغلقَ الأولُ شبّاكاً على خمرته
فانخلعَ الشّباكُ إذ أفرغتُ فيه وحشتي
واستوطنت فيه الريَّاحُ
صوّبَ الثَّاني إلى شجْرةِ أحزاني بقايا نهرهِ الآسنِ،
وارتدَّ بعيداً طائراً
أتبعتُهُ بالعفن الهاطلِ من منقاره
فاستوقَفَ الأفقَ الجناحُ.
فارغٌ من أصدقاءٍ فارغينْ
قطفوا نرجسَ أنهاري، وخُلِّفتُ خريفيّاً حزينْ
لاأناديهم، فما علَّمني الموتُ نداءَ الميّتينْ،
ليس لي عَرْشٌ ولا فَرْشٌ ولكنْ
لي صغيران يمصّان رحيقَ الرُّوح
خطْواتُهُما تكشفُ لي لغزَ المغارهْ
فأرى العالم يهوي بثريّاتٍ من اليأسِ
يُسَاقي حارسَ الموتى دمارَهْ
آه ماأفَقَر هذا الكون ما أخواهُ
إذا ينسخ عن أجداده أوراقَهُ اليابسةَ الصَّفراءَ،
ماأعلى ضحاياه وماأدنى نهارُهْ
عالَمٌ يُحْشَرُ في أنبوبة الكيمياءِ
يستجدي بريقَ الماءِ من رمل الحضارَهْ
عالَمٌ يسقط في معنى الدّعارَهْ
عالم يسقطُ... والأولادُ ناموا/
...
(سومَرٌ) قُرْبي،
له أرضٌ بَشْرقِ الأرض، يغشاها النّعاسُ
وجهه من شقرة القمح، وعيناه من الألوان ماسُ
زارَ أنوارَ الأساطير، وحيَّا
مُدَنَ النَّهر فردَّ النَهرُ والزَّرعُ:
سيأتيكَ زمانٌ لاترى فيه لخطْواتكَ حيّاً عربيَّا
(سومرٌ) عاد إلى البيت،
ولكنْ أرضُهُ عادت إلى الموت جَلِيَّا
(سومرٌ) يلعب في أرجوحة الشَّرقِ،
تهجَّاني وسمَّاني، تبادَلْنا المرايا:
هو سمَّاني أبَا
وأنا سميتُه جَدَّاً يُسمّي العَرَبَا.
لزمانٍ سومريٍّ أحشُدُ المستقبلَ المهجورَ،
صوتي نخلةٌ تُمْلي على الماءِ الفراتيِّ
ظلالِ اللّعنة الأولى....
سمعتُ الطفل يبكي، قلتُ هذا عالَمٌ يبكي،
رأيت الطّ‍فلَ عصفوراً تربّيه حروبٌ وسلامُ.
...
سقطَ العالَمُ والأولاد ناموا/
(جوهَرٌ): ماهيَّةُ الموتِ الَّذي يحتكُّ بالأرحام
كانت شفتاه ترجفانِ
ويداهُ كُحْلُ ميلادٍ جَسُورٍ ترقصانِ
غير أنَّ الموتَ ظلٌّ ليديهِ
عندما تُطْوى على فَقرِ هواءٍ رئتاهُ الغضَّتانِ
(جوهَرٌ) يفقدُهُ العالَمُ، فلأُثْبِتْهُ في طفلٍ يعاني
ساعةَ الخلق من الخالق....
لاتذهبْ بعيداً ياصغيري واحفظِ الآن مكاني
لكَ من آيات هذا الصَّيف ماشئتَ:
انهياراتي، أنابيبُ غذاءٍ ودماءٍ وحناني
لك يا (جوهرُ) نَسْلُ الرُّوح فاهبط في كياني
قبل أن يُفْرِغَهُ العالَمُ من نار المَعاني...
...
(جوهَرٌ) وجهاً لوجهٍ في رصيف الموت،
ماتَ الموتُ مات الموتُ والطِّفلُ رهاني
فليَضِئْ فيَّ الشعاعُ البِكرُ، وليحيا الغلامُ
سقطَ العالَمُ، والأولادُ ناموا/
...
(سومرُ) الآن خروفٌ أشقَرُ
تكبرُ الأشياء في عينيه، يرعاني كأنّي شَجَرُ
ويغطيني بكفَّيه ويحتلّ كتابي
أتداعى خوف أنْ أنصاعَ للّعبة
فالّلعْبُ مع الينبوع فيهِ خَطَرُ
سابحٌ تحتي رمادٌ
وبقايا جسدٍ ينهضُ من حاضنةِ اللَّيل
وجوفي سَهَرُ
هاهو الـ (جوهرُ) في إبراقِهِ الرّوحيِّ
مغمورٌ به داخلُنا الأجوفَ
مرهونٌ له موعَدنا المُنكسرُ
...
هكذا تنفتحُ السيرة،
أو تُخْتَتَمُ السّيرة، ينهدَّ الكلامُ
سقطَ العالمُ، والأولادُ ناموا.
__________
25/3/1994