الموت على سفح أغنية - علاء الدين عبد المولى

وأتركُ قَلْبي على سفْح أغنيةٍ نبتَ الحَجَرُ الزَّمنيُّ عليها.
أحدّق في ثغرة الكونِ:
أكبرُ من ثغرةِ الكونِ قلبي
فكيف لسَفْحٍ تضاءلَ، يحملُ قَلْبي؟
ويستأنسُ النَّبضُ بالموحشِ السَّرمديّ
لماذا عليَّ إمالةُ قلبي ليسكبَ ميراثَهُ وطناً وطناً
ونقاءً نقاءْ؟؟؟
تناءيتُ عن غسق الرّوحِ،
مغتربٌ... مذْ ولدتُ أسمَّى هجينَ الكلامِ
فكيف يجيءُ حليبُ الطّفولة من أسفل السَّفْحِ
وجهي تمرَّغَ بالطِّين...
عينايَ نايان ينفخُ خلفهما غامضُ الحُزْنِ
تبكي الفضاءاتُ...
ما عاد في داخلي غيرُ نَوْح الفضاءْ
زمانُ القوافل يهربُ من فسحة الذَّاكرةْ
وكان المغنّي يهيجُ المسافاتِ،
تُرْخي المسافاتُ أعناقَها أسفاً:
كيف لم يتوقف العاشقينَ القدامى
لكي يُقْتَلُوا أصدقاءْ؟
وليس لأجراس من عانقونا صدى
والمدى أكل الجائعينَ
ومات المغنِّي... سُدى
...
ويلتمعُ البَرْقُ... ينكشفُ البَرْقُ عن جسدٍ
يتهرَّأُ عضواً فعضواً
فأبحثُ في مزَقِ الكونِ عن وجه أنثى
اصطفيتُ صهيلَ يَدَيْها إذا هدأتْ
لأريحَ تراثَ التّقهقرِ فوق أصابعها
وأُسرُّ: أحبُّكِ، فلنهربِ الآن من صدأِ الكونِ
قبلَ يَحُلّ الخواءْ...
بها أنا أُرْقصُ قطعانَ، روحي الشَّريدة
مزمارُها المطريُّ يباركُ معبدي الفارغَ الجنباتِ
وأذبَحُ سرَّ دمي بين أقدامها
ثمَّ أدفع بالنَّومِ يسرق حرَّاسَها
أتوغَّل في شَفَتيْها
أقطّرُ فيها دمي قُبلةً
وأضجُّ بأعراسِ قلْب تزغردُ
أطلقُ شَعْبَ الحمام
وأقرأ تعويذة الحبِّ
أدعو على من يصيدُ الحمامَ
بألاَّ تذوقَ خلاياه موْجَدَةَ العشقِ
أدعو على من يربيِّ الحمام بأن
يلمَعَ البرقُ داخله
ويلمَّ الهوى ماهوى منْ مشارفهِ العاليَهْ...
...
على سفْح شعري وقفتُ وقُلْتُ
أنا قمَّةُ الكلماتِ
وفي قاعِ روحيَ تُسْكَبُ خمرُ المساء
وأرجفُ مِنْ جمرة الحبّ
أسقطُ من كوكبٍ صاعدٍ
وأغنّي وأهلُ الغناء نيامْ:
"دعوني دعوني أناجي حبيبي
ولا تعذلوني فعذلي حرامْ"...
تميلُ الأعالي إليَّ تصلّي عليَّ
لمجدٍ تلِفْتُ بتَعْتيقِ خمرتِهِ فوق نار الهيامْ.
وأسأل قاصيةَ الهجر:
من أيِّ حبٍّ أفرُّ إلى أيِّ حبٍّ؟
وكيف يغافلني شَبَحُ العشْقِ يقذفُ ريحانَهُ
فوق صدري فأشهقُ؟
أوقظُ في خيمة الرّوح من نامَ من عاشقينَ،
وأكسرُ كأس المنامْ.
وأشربُ من سهرِ الذّكرياتِ الرَّجيمةِ فيضاً رماني
سُرِقْتُ إلى الموج....
يا غارقاً خلفَ لؤلؤة الحبَّ
سوف تموتُ غريقاً ولؤلؤةُ الحبِّ
تقرأ بعدكَ عَنْك السَّلامْ.
هو الحبُّ يا بحرُ... تغلي النَّوارسُ فيه وتدنو
تحاول تأويلَ قرآنِهِ، تتلاشى بإشعاعهِ
وهو يبقى وحيداً يوحِّد أشتاتَ أرواحِ مَنْ أسرَفَ
العمرُ في نأيهمْ عن بداياتِ ألواحهِم...
هو الحبُّ يا بحرُ، صخرٌ على شاطئٍ
فوقَهُ يجلسُ العشقُ مرتبكاً من ملائكةٍ يسجدون
لأنثى تُنفِّضُ عن صدرها الموجَ،
تخرجُ بيضاءَ أسماؤُها اتَّضَحَتْ
غير أنَّ ملائكة البَحْرِ ذاهلةٌ بالخروجِ الطُّقوسيِّ
يا بحرُ يا بحرُ هذا هو الحبُّ
لا اسم له وهْو كُلٌّ
ولا شكل فيه ولكنَّنا منهُ نعرفُ نشأتنا والطًّريقْ.
...
على سفْح شِعْري وقفْتُ
لأُخرِجَ من معطف الحزن وجهي الجديدْ
وقيلَ جميعُ المحبيِّن عندَ حبيباتهم
والكلامُ يمرُّ سريعاً ليسرقَ وجهَ الَّتي كنتُ
أسرقها من يد الموتِ
لا تغربي يا شروقَ الغناءِ أكمِّلُ نَزْفَ وريدي
على حجرٍ في النَّشيدْ.
تغادرني المرأةُ اللُّغويَّةُ والوَرَقُ الأبيضُ البكْرُ
ما زال أبيضَ... لا تغربي واتركي خطوةَ الرِّيحِ
تصعدُ في فلكٍ من جموحٍ.
فإنْ عاتبتكِ القبيلةُ فيَّ
فلا تغزلي زهرة الدَّمع من قمرٍ ساهرٍ
قُرْبَ مَهْدِكِ،
لاترسمي صورتي في جدار الَّذين مَضَوا،
كم ألِفْتُ انفصالَ الأصابعِ عن كفّها
وألِفتُ البقاءَ وحيداً
وحيداً بقلبٍ وحيدْ...
...
على سفح وحدتي القاحلَهْ
حفرتُ كهوفاً أخبِّئ فيها عزيفَ الرَّياحْ
وأحمي بها زوجةَ الزَّمن المتداعي عن الذئب
بعد ثلاثين جيلاً من الجَدْب
يا ذئبُ أنتَ تقاسمني لقمةَ الماءِ
قل لي: أما امتلأتْ غابةُ الشِّعر بالجثث المرعبَهْ
وقلْ: أحرامٌ على شاعرٍ أن يشمَّ
ولو في القصيدةِ نارَ الجسدْ؟؟؟
...
على سفح موتي وقفتُ أغنِّي لأهل المقابرْ
وما الفرق في لغة الموت بين جدارٍ وشاعرْ؟...
_________
24/8/1992