عاشقة في مدن بلا ذاكرة - غادة السمان

لستُ سلحفاة...
ووطني ليس صدفة من عاج،
أرتديها فوق ظهري، وأهرول بها حيث أشاء..
ولستُ نورساً، لأطير إلى أي مكان
يرحل إليه الربيع وأقول: هذا وطني!
ولستُ فيلاً، لا يعود إلى وطنه إلا ليموت..
ولستُ ضفدعاً، وطنه النقيق عند الغروب..
ولستُ حوتاً، وطنه التيار كيفما سار..
ولستُ أفعى، تخلع جلدها كل عام
وتصنع منه محفظة، لبطاقة وطن جديد...
ولستُ أرنباً وطنه التناسل..
ولستُ كلباً يهز بذيله طرباً
لمن يطعمه وبالدفء يغمره
وبالطوق الذهبي يحيط عنقه...
ولستُ قطاً يعلن سرير الدلال وطناً..
ولستُ فراشة وطنها الألوان والفضاء...
وأعرف جيداً،
أنني ولدت منذ آلاف الأعوام..
وأعرف أين ولدت، وتعلّمت الحياة تلو الأخرى..
وأتقنت الموت تلو الآخر..
وعيناي بوصلتان، تتجهان دوماً إلى هناك.
***
ها أنا أمدّد أجساد أحبائي القتلى،
فوق طاولة كتابتي، وأنهمر مطراً وحبراً..
أتعرف يا صديقي طعم مدن بلا ذاكرة،
وحانات بلا عصافير، وقطارات بلا محطات..
تهرول بك فوق سكك الأحزان اللامتناهية؟
آه كم من الكوابيس أعادتني إليك،
وأنا أفتتح متاحف الحزن
وأقص الشريط التذكاري بأسنان البكاء.
أتعرف يا صديقي طعم الوحشة،
حين ينتحب المطر فوق رأسك
في مأتم شتاء المدن الكبيرة
وأنت تهرول وحيداً،
تتزلج فوق الكآبة والذكريات؟
أعرف أن المراكب في المرفأ تشكو الضجر،
ولكن المراكب المبحرة تشكو الغربة
وتشهد أن موسم الهجرة إلى الوطن قد حان...
***
أستقل المترو، فيركض فوق جسدي..
أشتري الأطعمة المثلجة
فأجد رائحتها كبرادات جثث المجهولين..
أرتدي معطف الفراء
فيعوي ثلج البراري نائحاً قرب عنقي..
أمشي في شارع "الشانزيليزيه"
وتتنزه فوق رأسي أقدام الفاتحين...
أتسول بطاقة إقامة في الغربة،
فأجد نفسي معزّزة مكرّمة
ممدّة على المنصة في مشرحة المشردين..
شبح أنا في الغربة..
أمد يدي لأشتري تذكرة السينما
فلا تراني البائعة وتخاطب الواقف خلفي...
الأبواب التي تنفتح من تلقاء نفسها
- حين تقف على عتبتها -
لا تستجيب لي وتظل موصدة..
تذكّرني بانعدام وزني هنا.. كالغرباء كلهم
مهما ربطوا إلى أجسادهم أثقالاً ذهبية مرصّعة...
***
لا تقل لي إن الكلاب البوليسية
تطاردك في ليل الموانئ الغريبة،
وفي ليل مطار بلدك على السواء..
وإنك تعيس هنا، وتعيس هناك...
لا تقل لي إنك تحسد الذين في "الداخل"
وهم يحسدونك بدورهم لأنك في "الخارج"
وهذا قدرك: محسود وحاسد.. مقتول وقاتل...
لا تقل لي إنه موسم الهجرة إلى النسيان..
ودعني، أخطّ نداء الاستغاثة هذا، من منفاي
وأضعه داخل زجاجة أرمي بها إلى البحر
وأشهد أنه موسم الهجرة إلى الوطن،
فهل يجرؤ أحد هناك على التقاطه وقراءته
أم سيخفيه شعار الشاطئ: ممنوع القراءة؟!
_________
20/5/1988