أنت، أم بيروت؟ - غادة السمان
ما الذي يحدث لي ويحوّلني من كتلة بشرية ثقيلة إلى أثير
ضوئي؟ أهو حبك، أم السماء البيروتي الفسفوري المشع؟
القمر كرة قدم أركلها على الشاطئ داخل مرمى صخرة
الروشة. الأسماك الملونة تحلق في السماء كالطيور. العصافير
والفراشات تسبح بين الأمواج... أمسك بيدك، نمشي فوق
صفحة البحر مع الزرافات المشتعلة، ولا تبتلّ أقدامنا العارية!
فوق الموجة العالية، نرقص الفالس الامبراطوري (بالجينز)،
فتكفّ عن إحصاء موتاك الذين لم يدفنوا، وما زالوا يتابعون
حياتهم المحنّطة. تهمس أنني المرأة الوحيدة التي ما زالت حية
حقاً في كوكبك... وتلذ لي كذبتك فأصدقها!
ما الذي يحدث لي؟
ألأنك تهطل عليَّ بكل أجسادك ونسياناتك ووحشاتك
وقصائدك، أرى أوراق الخريف تعود إلى أغصانها وقد
أخضرّت، والزنبق الأبيض غادره الذبول وعاد فوّاحاً كتنهد فم
عاشق مزدحم بالقبل؟
لماذا أرى شلالات لبنان تصعد إلى الأعلى هاطلة صوب
ينابيعها؟ أهو حبك؟ أم السحر البيروتي الذي يتقن إخراج أنهار
اللبن والعسل من قبعته (المثقوبة برصاص الحروب) كالحواة
المحترفين؟
لقد ظل الحزن يقطف مواسم غربتي عاماً بعد آخر،
حتى أعدتُ اكتشاف قارة شفتيك...
غادرتك، وشراييني ممتلئة برحيقك،
وعلى رملي خلّفت لي وقع خطى صوتك...
معك، أعود دائماً مخلوقاً بلا ماضٍ ولا عمر.
معك، يعود الوجود مكهرباً بنشوة غامضة،
وتعود الحياة عيداً، ويبدو الموت اكذوبة سمجة!