النَّاطُور - قحطان بيرقدار

في قلبِ الليلِ الغارقِ في الأمطارِ وفي الأحزانْ..
كانَ الناطورُ بِغُرْفَتِهِ
يُصْغِي لِنَشيدِ المطرِ الهاطلِ
ويُلَحِّنُ فيهِ الحِرْمَانْ ..
ويزيدُ الموقدَ مِنْ حَطَبٍ
لِيَزيدَ الدفءُ ويسعى في كُلِّ الأركانْ..
كانَ الإجهادُ جَليَّاً في عينيهِ المُتْعَبَتينِ
وفي الأجفانْ!.
يتمنَّى أنْ يَغْلبَهُ النومُ
ولكنْ ما أشقاهُ.... وما أقسى الجيرانْ!.
الليلُ طويلٌ في كانون الثاني
ماذا يفعلُ هذا البائسُ كي تمضي
هذي الساعاتُ بِكُلِّ أَمَانْ ؟..
لا أحدٌ يُؤْنِسُ وحْشَتَهُ
لا أحدٌ يشربُ خمرتَهُ
ومريرٌ جِدَّاً أن يبقى كأسيرٍ ما بينَ الجُدْرَانْ ..
لا يعرفُ بيتاً يَسْكُنُهُ..
لا يعرفُ أُمَّاً تَحْضُنُهُ..
لا يَعْرِفُ أَهْلاً، أو خِلاَّنْ..
الليلُ طويلٌ .. ماذا أفعلُ يا جيرانْ ؟!..
* * *
عشرونَ ربيعاً عُمْرُ البائسِ
والأعمارُ لها أوزانْ..
البيتُ الأولُ يُرْهِقُهُ..
البيتُ الثَّاني يَطْحَنُهُ..
البيتُ الثالثُ يَذْبَحُهُ..
والبيتُ الرابعُ يُوصِلُهُ حَدَّ الهذيانْ!.
عشرونَ ربيعاً فَشَبَابٌ
أجملُ منْ هذا لا ما كانْ!
الطولُ الفارعُ والخدَّانِ الورديانْ
والشَّعْرُ الأَشْقَرُ، والعينانِ الزرقاوانْ..
والوجهُ النَّاصعُ مثلُ الثلجِ،
الجسدُ الصُّلْبُ الطامحُ والبُنْيَانْ..
لكنَّ الفَقْرَ يُخَبِّئُهُ..
كظلامِ الليلِ وَيَحْجُبُهُ..
عَنْ نَظْرَةِ عَيْنٍ مُعْجَبَةٍ... أو بَعْضِ حَنَانْ..
ويظلُّ لِبَحْرِ مَتَاعِبِهِ
يرميهِ الموجُ إلى البركانْ ..
ويقولُ حزيناً في وَجَلٍ :
الليلُ طويلٌ .. ماذا أفعلُ يا جيرانْ ؟!
* * *
وانتصفَ الليلُ ولم تَهْدَأْ
بَعْدُ العينانِ المُجْهَدَتَانْ..
وأزيزُ الرعْدِ يُثِيرُ الخوفَ
وَيُلْهِبُ آلافَ الأشجانْ..
مازالَ أمامَ الموقدِ يَشْرَبُ ناراً
يشربُ حُزْنَاً..
كي يَتَمكَّنَ هذا القلبُ منَ الخَفَقَانْ ..
في لحظةِ دفءٍ حالمةٍ
يَنْتَفِضُ البائسُ ملهوفاً ..
مذعوراً .. مَفْجُورَ الوجدان ..
ماذا ؟!
طَرَقَاتٌ مُتْعَبَةٌ في قَلْبِ البابِ
تُدَقُّ الآنْ!.
وَبِلَمْحِ البرقِ استعرضَ آلافَ الأَزْمَانْ..
لا أحدٌ بعدَ دخولِ الليلِ
يَدُقُّ عليهِ منَ الجيرانْ..
لا أحدٌ يدخلُ غرفتَهُ غيرُ الفئرانْ..
منذا يَقْصِدُهُ ؟ لا يدري...
شيءٌ لا يَخْطُرُ في الحِسبانْ!.
وتناولَ مُوسَى في يَدِهِ،
والرعدةُ تَسْرِي في دمِهِ
والشمعةُ تَرْقُبُ ما يَجْري وعُيُونُ الجَانّْ!!
والمطرُ الهاطلُ يصبحُ وَحْشَاً في الطُّرُقَاتْ ..
وتقدَّمَ نحوَ البابِ ومازالتْ هذي الطَّرَقَاتْ
تتثاقلُ فوقَ البابِ بلا ميزانْ..
وانشقَّ البابُ المُنْهَكُ
في يَأْسٍ وبكُلِّ هَوانْ..
وتهاوى فوقَ الأرضِ قَوامٌ
والتحمَ الاثنانْ..
وارتطمَ البابُ كبابِ السجنِ
وكانَ القَدَرُ هوَ السجَّانْ!.
وَتَفَاجَأَ هذا الوجهُ الناصع والعينانِ الزرقاوانْ!.
ما عادَ يُصَدِّقُ ما يَجْري،
والوقتُ تَفجَّرَ في دُنْيَاهُ
وما عادتْ في القلبِ بُذُورٌ منْ إيمانْ..
ماذا يا رَبِّي؟ زائرةٌ في هذا الوقتِ؟
أجبني يا رَبَّ الأكوانْ..
وتأمَّلَ فيها مُلْتَحِمَاً مَعَها
والأرضُ يُبَلِّلُها كُحْلُ الأجفانْ..
وَمَضَى يَسْأَلُها بحنانٍ :
مِنْ أينَ أتيتِ الآنَ أيا بِنْتَ الجيرانْ؟!.
* * *
وَبِقُرْبِ الموقدِ أَجْلَسَهَا
هذا الحيرانْ..
كانتْ عاريةً تأكلُها
نيرانُ الخَيْبَةِ أو ثلج الخُسْرَانْ
والوحشُ تَكَرَّمَ أنْ خَلَّى
أشلاءً يَجْمَعُهَا فُستانْ..
طَعَنَاتٍ حُمْراً وجُروحاً نَالَ النهدانْ..
وتلوَّنَ كُلُّ بياضِ الجَسَدِ الليِّنِ
لونَ المشمشِ أو زَهْرِ الرمانْ..
كانَ الناطورُ يُراقبُها
بهدوءٍ ويَخِيْطُ الفُستانْ!.
ويُفَكِرُ في بنتِ الجيرانْ..
كانتْ قاسيةً.. شامخةً
تَأْمُرُهُ.. تَنْهَرُهُ.. تُغْريهِ
بأنْ يبدُو منْ فوقِ غلالَتِها النهدانْ..
أمنيةٌ كانتْ غاليةً :
أن يلمحَ يوماً هذا الجَسَدَ الباريسيَّ بلا فُسْتَانْ...
والآنَ يراها عاريةً
منْ طَرَفِ القَدَمِ إلى الأجفانْ..
والعارُ.. الذُّلُّ.. الوَحْلُ تجمَّعَ في عينيها
أينَ الجاهُ وأينَ الرِّفْعَةُ والسُّلطانْ ؟
وَتَفَكَّرَ في طَعْمِ التفاحِ الأحمرِ
طَعْمِ الكرزِ وفي طِيْب الرَّيْحَانْ..
وَتَذكَّرَ أنَّ الليلَ طويلٌ في كانون الثاني والأحزانْ..
وانْصَرَمَ الليلُ بأَكمَلِهِ
وانبلجَ الصُّبْحُ بِكُلِّ أمانْ..
وَأَفَاقَ البَائِسُ منْ حُلُمٍ
وَحْشِيٍّ.. يالخَيالِ الجانّْ..
ومضى في يأسٍ وقُنوطٍ
يَتَحمَّلُ أَعْبَاءَ الجيرانْ...