هي بضعُ غيماتٍ ... - قحطان بيرقدار

هي بضعُ غيماتٍ..‏
رمى تموزُ فيها حقدَهُ‏
في بئرِهِ النَّاريَّةِ الأنفاسِ واختارَ السَّلامْ..‏
جعلَ الظهيرةَ جنَّةً‏
لِلعاشقَيْنِ الهاربينِ مِنَ الزِّحَامْ..‏
هيَ بضعُ غيماتٍ‏
تَرفَّقتِ السماءُ خِلالها بمشاعرِ الأرضِ التي‏
عاشتْ على ظمأ‏
وما زالتْ تتوقُ إلى رسالاتٍ:‏
مِنَ الغيثِ الخجُولِ.. مِنَ النَّدى..‏
والأُغنياتِ الغارقاتِ بعطرِهنَّ..‏
الذائباتِ بِخَمرِهنَّ... الطيباتْ..‏
هُو ذا النسيمُ يَزُورُنَا برذاذِهِ السِّحْرِيِّ..‏
يفرشُ فوقَنا سُحُبَ اللآلئِ والزنابقِ..‏
يَسْتَحِثُّ ربيعَنا الغافي،‏
ويسألُنا الولوجَ إلى رياضِ‏
الرحلةِ الأُولى، ويَدْفَعُنَا‏
لِنعرفَ أنّنا نحيا ونشعرُ بالحياةْ..‏
لِنَكُنْ حَنينَّيينِ بعضَ الشيءِ..‏
وَلْنلعَبْ هُنا بينَ الكُرومِ..‏
لِنعتصِرْ ظلَّينِ مَظْلُومينِ‏
جَفَّ النهرُ فينا، فَلْنُفَجِّرْ‏
نبعَنا المردومَ بالأحجارِ والقططِ الجريحةِ..‏
فَلْنكُنْ مُتَوحِّشينِ وطيبينِ..‏
لِنبتِكرْ لُغةً تُزَلْزِلُ أرضَنا الخرساءَ‏
فتَّتَنا تكلُّسُ كونِنَا المَنْخُورِ..‏
أَنهكَنا جَحيمُ الصَّيفِ..‏
أفقدَنا بقيَّة حُلْمِنَا..‏
جُعْنَا.. ظَمِئْنَا.. لم نعدْ طفلينِ..‏
أصبحْنا مِنَ القصصِ القديمةِ..‏
فَلْنُقَلِّمْ في تَلاحُمِنَا غُصُونَ الرُّوحِ والجسدينِ،‏
وَلْنحرُثْ سُهُولَ الحُبِّ فينا..‏
لم نعدْ طفلينِ.. أَنْهَكَنَا جحيمُ الصَّيفِ..‏
نحنُ الآنَ أقوى مِنْ تفاصيلِ الجفافِ‏
ومِنْ سِيَاطِ الشَّهْرِ إِثْرَ الشَّهْرِ‏
في دوَّامةِ الجوعِ المموسَقِ بالتفاؤلِ..‏
لنْ نُضيِّعَ أيَّ ثانيةٍ..‏
سَنَشْرَبُ كلَّ مافي النهرِ‏
نأكلُ كُلَّ مافي الحقلِ‏
نغرقُ في زُلالِ تَدَاخُلِ الأمواجِ في الأمواجِ‏
في العَسَلِ الشَّفيفِ..‏
وتعرفينَ سجيَّتي وأنا أُسافِرُ‏
كيفَ أهربُ مثلَ عُصْفُورٍ على الأغصانِ‏
مِنْ قَمَرٍ إلى قمرٍ..‏
شمالاً أو جُنوباً..‏
لا أُطِيلُ تَشَبُّثي إلاَّ إذا أحسستُ‏
أنَّ النارَ تزدادُ اندلاعاً في المكانِ!..‏
وقد أُقِيمُ بِكُلِّ رابيةٍ..‏
أُحَاوِرُهَا‏
وَأَبْتكِرُ الجديدَ من العباراتِ الشهيةِ..‏
لا أَكِلُّ.. ولا أَمَلُّ..‏
وأفتحُ الدنيا..‏
وأجلسُ فوقَ عرشيَ‏
وَيْكَأَنَّ المُلْكَ يأتي مِنْ مُحاورةِ الحَمَامْ؟!...‏
رَحَلَ الظَّلام...‏
ورميتُ عَنْ كَتِفَيَّ هذا الكونَ..‏
أعلنتُ التَّبرُّؤَ مِنْ جميعِ الناسِ..‏
ذاكرتي تقيَّأتِ السنينَ بكلِّ مافيها‏
كأنِّي قد وُلدتُ الآنَ...‏
أَغْتَرفُ الحنانَ‏
كما أُريدُ...‏
وأمزجُ الألوانَ..‏
أرسمُ لوحتي بطريقتي..‏
وأَخُطُّ بالحبرِ المُعَطَّرِ بيتَ شِعْرٍ‏
لا يُفارِقُني صَهيلُ الرُّوحِ فيهِ..‏
تصاعدَ الإيقاعُ في لُغتي‏
وبابُ القلبِ موْصُودٌ بيأسي!..‏
لنْ تُحطِّمَهُ يَدٌ بشريَّةٌ أبداً..‏
وهذا الصَّبْرُ أقبحُ عادةٍ نعتادُها‏
والصيفُ يُوشِكُ أَنْ يُقَطِّعَ لحمَنا‏
ويُسَرْطِنَ الإحساسَ فِينا..‏
لنْ نجوعَ ولنْ نَضِيعَ..‏
ولنْ نبيعَ الجوهرَ المكنونَ فينا..‏
لم نزلْ مُتَدفِّقينِ على الحياةِ‏
نَعُمُّها بِكُنوزِنَا..‏
ونَضُمُّها بِحنينِنَا..‏
لا.. لنْ نمرَّ مُرورَ جَدَّينا..‏
سنبني قَصْرَنا‏
ونُطِلُّ مِنْ شُرُفاتِهِ وقتَ الأصيلِ‏
ونحتسي فنجانَ قَهْوَتِنَا..‏
ونُصْغِي للأغاني والملائكةِ الذينَ‏
يُهَدْهِدُونَ الرُّوحَ في نظراتهمْ...‏
سَيَظَلُّ هذا القصرُ بعدَ مُرورِنَا..‏
والبِضْعُ غيماتٍ ستبقى تحتوينَا..‏
لنْ تُغَادِرَنَا..‏
وَحُبُّكِ مثلُ رُوحِكِ ذُو مواهبَ‏
والسَّعادةُ نحلُها مُتَعَطِّشٌ لِرَحيقِنَا..‏
ولشمسِ تمُّوزَ ابتهاجٌ باندلاعِ حريقِنا..‏
وأنا وأنتِ القادرانِ على الوصُولِ!..‏
لا.. لن يُشَتِّتَنا انفراجُ البابِ..‏
لن تتحطَّمَ الشُّرفاتُ..‏
لن تفنى القصائدُ..‏
لنْ أَزُولَ.. ولن تَزُولي!..‏
فأنا وأنتِ القادرانِ على الوُصُولِ..‏