احتضار عام 1958 - محمد الماغوط

إنهم ليسوا رجالاً أولئك الملتهبون في حدائق الورد
بل أشبالاً زأروا للمرة الأخيرة تحت مطر الشمال
حملوا التاريخ على أكتافهم كما تحمل صناديق الفاكهة عبر الوحل
عبر المدارس القذرة والمباغي الجنوبية
أنا أعرفهم
أعرف السؤدد والكرامة
والمبادئ السائلة على أرائك التاكسي.
*
في غرف لا نوافذ لها كغرف العشاق والمهربين
كانوا يحصون قتلاهم على الآلات الحاسبة
وكانت الأسماء الطويلة تثير امتعاضهم
هناك.. في العرين العظيم المغطى بالبارود وغاز الحبر،
كان الشجار يرتفع عن أزهار الخوخ وتعرّق الأرجل
وصور الضحايا التي يغطيها الذباب
وأنا أرفع يدي كالمتر المكسور
دون أن يردّ عليّ أحد
هناك...
في الغرف المنقرضة... حيث العرق ينزف
والشوارب الذابلة تحنيها ريح الصحراء.
*
مولاي
أنا الإنسان الحضاري ذو الغرة الكستنائية
حامل العقيدة والمشط وأوراق الزكام
أخاطبكم والتبغ يسيل على جوانب فمي:
لقد مضى عهد الإرهاب والقيلولة..
وصفع الغلمان الشقر في المتاريس.
لا شيء غير النجيع الأحمر
وصرير الطاولات المحملة على الظهور.
*
هل نعود حقاً إلى القن والمزرعة وغيوم الأرجوان
هل ينفجر خزان الضحكات الأولى
إذا ما ثقبناه بالرصاص والأنياب الهاجرة؟
هل نعود؟
ومتى ولماذا؟
وما من أحد سوى نور القمر الأخضر
وروث الريف الجاف.
أبي.. أمي.. شيئان قديمان من الوحل والسعال والعظام البارزة
أهلي .. أخوتي ..
أشياء قديمة من الحساء والمخاط والثياب المهلهلة
هل نعود؟
متى وكيف؟
*
رأيت جوربيك القذرين على طاولة الحرب
رأيت قبر أبي يتسخ كالمغسلة
وأمي منهوكة القوى
تقلب التراب بيديها كأنها في مختبر
لترى هل يستحق هذا التراب
المليء بالقش والحصى والمسامير
كل هذا الشوق والعناد والكلمات الطنانة
هل يستحق هذا التراب المنتقل على الأحذية والحوافر
كل هذا الفقر والغيظ والمسدسات المدفونة بين الأفخاذ؟
*
لا تلمها يا مولاي
إنها لا تراني إلا في الصفحات الأخيرة
متسخاً عبر آلاف الجبال والأودية الغبراء
أو اقتلها
إن في عيني قسوة القياصرة
وفي زندي ملايين الأذرع الخاوية تتأرجح!
*
اقتلها
اقتل الجدران، والسيارات، ومكاشط الوحل
ولكن دعني أرفع يدي هكذا في وجهك
لأحدثك عن النجوم الصغيرة، ورنين الحافلات المتقطع
عن ملايين الأنوف والعيون التي نصطدم بها تحت ستار الرعد
دعني أبرز لك هذا الغليان الهائل
من الحنكة والتذمر
هنا وسط فمك وقلبك وتاريخك الجامد والمدبب كالمنقار
*
لا لن أقف خلف الطاولة بثلاثة أقدام، أو ثلاثة ثرون
ولن أشيح بناظري عنك
ما لم تكن هناك فتاة تتعرى
أو وعاء يتصاعد منه البخار.
رأيتك تنزف في أحد الأدراج أيها العاشق الذابل العينين
والدهن يقطر على أوراقك السرية.
هناك في الغرف النائية ذات الأجراس
رأيتك تصافح الجميع ما عداي
تقذف لفائفك للجميع ما عداي
ولي خمس أصابع وخمسة أظافر كالآخرين
وأنا أقف أمامك كالصنم
ودموعي مستقيمة كالأزرار.
*
آه لو تعلم أيها الإله الذهبي
أن أجيالاً وأجيالاً ستحيا على فضلات هذه الأصابع
أمما وأمماً ستعيش على ذكرى هذه الأيدي الموشومة كأيدي البدو.
*
أنا أعرف لماذا؟
لأنني فقير ومعدم
وأقف على الضفة الأخرى من النهر
على الجانب الأسود الحار والمحتضر
والمنحني كالشلال تحت ضغط الأثداء الصغيرة
والمشدّات الممزقة على مفارق الطرق.
لقد وضعت حقيبتي على ظهري كالطائر
أجتاز الخنادق الغاصة بالدم والآلات الحاسبة.
وكانت لفافتي على مستوى آلاف القمم
ودموعي تتساقط على آلاف الغابات
وأفكر بالاتهام والسيطرة
وتساقط الحواجب في الخريف
والتبول تحت الشمس اللاهبة
وقذف القمم كالحصى داخل الوديان
كنت حزيناً ومرعباً أمد رأسي كالعصفور
من خلال النوافذ والمصابيح المتطايرة فوق شعري
ألمح الأبواب الطعينة
وأقدام الأبطال الغائصة في العشب
والتلال الزرقاء التي طالما هززتها بقدمي
تلمع أمامي كأسنان البفل
كأسنان وحيدة باكية
عبر تاريخ طويل من النهب والزغاريد
وارتطام الكهول في المباول
*
ثمة قرية صغيرة بين ذراعي
ملعقة صغيرة وصفراء كالبلبل في حديقتي
أيها الدم القاني لن تعرف جرحي أبداً
أيها الجوع النائي لن تعرف فمي أبداً
إن أنهاراً من المرطبات
من الهواء الأخضر والأزرق والمصفّى بالمناخل
لن يزيل هذا الشحم الليلكي
هذا العرق المتدلي كالسيف من حزامي
*
سامحني يا مولاي
إنني أحول كما تعرف
ولا أرى الأمور إلا كئيبة وساقطة
ولكن انظر بعينيك الخضراوين
يا سليل تدمر وسومر
وبقية الدمامل المشعة كالياقوت
انظر إلى هذه الدموع المطروحة في المغلفات
إنه ليس انتظاراً هذا الذي نقاسيه
إنه صمغ في أسفل القدم
قبح في فوهة المدفع
رماد الأبطال يسقط في منفضتك يا جبان
ودم الأطفال ينقلب في جوفك كأمواج صيدون
ماذا تعرف عن الصبر والنضال
ولعب الطوابع في الزمهرير
لقد حرمتني لقمتي يا مولاي
لقمتي الصغيرة المجموعة من كل حقول العالم
والمتدحرجة همساً على طرف السوط والمقلاة.
لن ننتصر أبداً والبومة تنعق
لن ننتصر والسيف مجزأ.
*
الليل يحمل عرثلته كالزنبقة بين يديه
ويغرد على شجرة ما في الشرق البعيد
اجمعوا أظافركم
وضعوها أمامي هنا على الطاولة
اجمعوا كل الشفاه التي قبّلت
والأثداء التي انتهكت
هنا مع الصحف والغلايين وأدوات الانتقام
إنني لا أصدق .. الشمس جميلة
والنوافذ تلعب مع بعضها كالخراف في المرعى
أن ابنتي تحبو الآن في الأفق
تسيل كالماء على العتبة
أريد أن ألتهم تلك الطفلة
وأدفنها في أحشائي كالسر.
أريد منجلاً يحصد كل هذه العيون الزرق
يختاً بربرياً يقلني وطفلتي إلى قبر رصاصي وراء البحار
حيث القمر يسطع
والنعاس يسيل مع الأحلام من زوايا العيون
*
اقبروا أطفالكم جميعاً
مزقوهم كالعملة الزائفة
ابعدوا رؤوسكم قليلاً أيها الزنخون كالوحل
دعوا الهواء الأزرق يمر
يصفر في الأدراج
إنني أرى سحابة تترجل من النافذة
قرية صغيرة بحجم الطفل تقترب مني
قرية خضراء كاملة بكل حقولها وأعراسها وطيورها
تحط على ياقتي كالفراشة
آه الصيف الصيف يا رفاق
الكلمات لزجة، البنادق لزجة
إن أردتم النصر
أو الأيام القديمة ماذا أفعل؟
أطلق رصاصة صغيرة في رأسك
ثقب صغير كفتحة الأنف
ينقذ شعباً برمته
من الشوق والتلعثم وجر الضحايا من الشوارب.
*
أصغِ إلي يا طاغية
دمك ليس دماً فينيقياً أو عربياً
ورأسك الأصلع لا يحمل التاج الذي رويناه
نريد رأساً مجوّفاً تجلس عليه أمة بكاملها
جلدك الأملس ذو المسام المستوردة
والذي لم يتسخ ولم يجلد في حدائق الورد
لن يعبره هواء المنفى
*
لست جائعاً يا مولاي
عيناي رغيفان زرقاوان
إنني أحترمك كرجل غاضب فقد أشياء عزيزة بلا معنى
فقدتُ الطيش والكبرياء
والنهدين الوحيدين اللذين لي في هذا العالم
لقد تركت معدتي وأظافري وكبريائي في مراكز الاستعلامات
وصعدت السلالم بإعياء
بين رؤوس حليقة يغطيها الندى لأحدثك عن مرارة الفم في الصباح
عن الياقات اللزجة
والفقر المتمسك بي كالخناق
دع عيوننا تلتقي
لا كأعداء منبوذين
بل كأعداء شاهري السلاح
في الزرائب والوديان المشجرة
حيث لا أرصفة تعرفني
ولا شمس تصفع السلاح
حيث لا نرى غير وميض الأساور وآلات الاختزال
الأميال الطويلة التي اخترقناها تحت جنح الظلام
لم تعد طويلة أبداً
ولم تعد قصيرة أبداً
إنها قبور مشمسة لا شواهد لها
عظام نتنة لأبطال مقهورين
ماتوا وفضلات الطعام بين أسنانهم
وحزم النقود تلمع في جيوبهم وأحشائهم
لا جوعاً ولا طيشاً
وإنما من أجل الكلمات الصعبة والمنقّاة
من أجل الحبكة القصصية
والغيوم التي تساق بالسياط نحو المزارع
عظام الحضارة كلها
عظام الموت والكفاح والشكيمة
تتفتت كلها وتذوي كورق الصفصاف المشتعل.
*
سوريا
أيتها الحبيبة والمفدّاة
يا بواخر الشرف التي لا مرافئ لها
نعرف أنك أبية لا تطلبين النجدة
لو مزقوا أجسادنا بعدد نجومك
لو شطروا أطفالنا كالإسفنج
ونشروا دماءهم على مطالع الكتب والتماثيل
لن نحونك يا حبيبة
أبداً من خلف الشوارع والنجوم والأدغال
من خلف البكارات الرطبة والدموع الزرق
سنرقب طيورك وقراك المزوبعة كأوراق الصحف في الشارع
سننغرس على حدودك كالكلابات.
*
أيتها العجوز الراقدة بثيابها وحذائها وتجاعيدها ومفاتيحها في حزامها
ألم تشتاقي لطفلك العجوز البعيد؟
إنني جائع يا أمي
من عروة القميص أرى أطراف أحشائي.