النجوى الثانية - محمد موفق وهبه

شَهرَزادْ
عَصْرُكمْ لطـَّخَ خَدَّيْهِ بوحلٍ وَسُخَامْ
وأهانَ الجسدَ الرمحَ اعوِجاجٌ وانهِدامْ
وقضى جلَّ لياليهِ على فُرْشِ القَتادْ
لبِسَتْ أيَّامُكمْ ثَوْبَ الليَالِي الحَالِكاتْ
لبِسَتْ ثَوْبَ الحِدَادْ
رَغمَ بَعْضِ الزَّرْكشَاتْ
زَهَراتْ
كُنّ بسماتِ حنانْ
جذلاً يعبقُ يخضلّ وروداً وأقاحْ
في جِنانِ الحُبّ والإحسان في روضِ الودادْ
صَوَّحَت قَبلَ انتشارِ العِطرِ مِنها وأُبيدَت في الصَّباحْ
مَا استطاعَتْ مَسْحَ لون الحزنِ أوْ تمْزيقَ أثوَابِ الحِدَادْ
فَتَرَدّى الحُسنُ في كُلِّ مَكانْ
كَثُرَتْ شَعْوَذةُ المُنحَرفينْ
كلُّ مُحْتالٍ لعينْ
صَارَ فِي الطِّبِّ عَليما
شَاركَ الأمْرَاضَ ذَبْحَ المُوجَعينْ
صَارَ فِي الحِيلَةِ وَالسَّطوِ حَكيمَا
كانَ قُطـّاعُ الطـَّريقْ
من صنوفِ المارِقينْ
حاقدينْ
ينشرون الخوفَ في عرض البلادِ
ويعيثون فساداً وفسوقْ
في القرى في الريفِ في عمقِ البوادي
يَسْرقونَ المَالَ وَالأطفالَ يَسْبون النساءْ
لا يُبالون بأسيادٍ ووالٍ عندهم سُمّيَ شيخَ الضعفاءْ
عَصرُنا ينظرُ مَشدوهاً وَراءَهْ..!
حامداً مولدَه في مهد حبٍّ وبراءَهْ
تحت أظلال الوئامْ
حينما فجرُ السلامْ
ألبس الأرضَ رداءَهْ
وحَبا كلَّ نواحيها ضياءَهْ
لمْ يَعُدْ يَلعَبُ فينا الدَّجَلُ
مَاتَ عَصْرُ الانحِرافاتِ أتاهُ الأجَلُ
لمْ يَعُدْ ( زَيْدٌ ) لهُ زوجٌ مِنَ الجنِّ وأختُ
لمْ يعدْ ( عَمْروٌ ) لهُ إبنٌ مِنَ الجنِّ وَبِنتُ
فِي عَصْرنا لمْ تعدِ الجنُّ ولا أشباحها تصادِقُ البَشَرْ
وَلمْ تعدْ عَينٌ ترى أطيافَها صبحاً ولا سَحَرْ
تركضُ فوق الأرضِ أو ترقى إلى السَّمَاءْ
تَمنَحُنا السّرورَ وَالشّقاءْ
تلعَبُ بالقدرْ
تحوِّلُ الدِّماءَ ماءْ
وَتمْسَخُ الإنسَانَ قِرْدًا.. حيّةً.. حَجَرْ
قد طردنا الدَّجلَ العاتي وظُلمَهْ
وعلى قبر الخرافاتِ غرسنا كلَّ مأثورٍ وحِكْمَهْ
صَارَ بَيْنَ الإنسِ وَالجنةِ حصْنُ
ليْسَ تسْطيعُ جُيوشُ المَلِكِ الأحْمَرِ هَدْمَهْ
أُسُّه عدلٌ وأما صخره الصّلدُ فدستورٌ وأمْنُ
لمْ يَعُدْ يَسْكنُ فينا مَاردٌ يَا شَهْرَزَادْ
فلقدْ وَلتْ فلولُ الجَهلِ عَنْ هَذي البلادْ
فِي عَصْرِنا لمْ تعُدِ الأبْرَاجُ وَالنجومْ
تَكتُبُ في أَعمارِنا الأفرَاحَ وَالهُمُومْ
تعْرفُ مَا تشَاءُ مِنْ أمورِنا
وَتكشِفُ الغيوبَ عَنْ مَصيرِنا
فنحنُ فِي هَذا الزَّمَانْ
إذا غَزَتْ أَفراحَنا الأحزانْ
فليس من يدفعها عنا سوى الإنسانْ
ليسَتْ تُعيننا عَفاريتٌ وَجَانْ
ونستغيثُ إنْ طَغى الإنسانُ بالإنسانْ
إذ ليس بعد اللهْ
في هذه الدنيا لنا سواهْ
منذ أن ساد الإخاءْ
منذ أن مُدّت لتحمينا من القيظ ظلالُ المَرْحَمَهْ
لَم نَعُد نَسمَع أو تجري على ألسننا كِلمَةُ مَولى أو أَمَهْ
كُلُّنا في هَذِهِ الأرضِ رِجالاً وَنِساءْ
كُلُّنا فَوقَ بِساطٍ واحِدٍ نَحيا عَلى نَفسِ المَكانْ
فُتحت أبوابُنا للحبّ يمحو البؤسَ واليأسَ بأنوار الحياةْ
بعد أن ولّى الطّغاةْ
قهر الحبُّ العُتاةْ
فرّ من كانوا يَسوقونَ عَبيداً وقِيانْ
وطردنا الذُّلَّ.. أردَينا الهَوانْ
وَغَدا الجَلاّدُ إنساناً وَدودْ
لَم يَعُدْ يَرقصُ مُختالاً سعيدْ
فَوقَ أَثداءِ الجَواري أو عَلى هامِ العَبيدْ
عَصرُنا أَوَّلُ عَصرٍ بَعدِ عَصرِ الحَجَرِ
جاءَ هَذا العالَمَ، المَنكوبَ بِالقَهرِ، أتاهُ مُنقِذاً لِلبَشَرِ
مِنْ شُرورِ البَشَرِ
عَصرُنا كانَ الوَليدَ المُنتَظَرْ
بَعدَ عُقمٍ طالَ دَهراً في شيوخِ الأعصُرِ
رقص الكونُ انتشاءً للخبرْ
وانبَهرْ
ملكُ الحُسنِ القمرْ
كانَ حُلواً مِثلَ فَجرٍ في ربيعٍ أخضَرِ
أو كَلَيلٍ فيهِ ساجٍ مُقمِرِ
عَصرُنا كانَ جَديدا
وَفَريدا
حَظّنا كانَ سَعيدا
لَم نَكُن أَبناءَ عَصرٍ سادَهُ البَغيُ وغَطّاهُ العناءْ
وَشَقاءُ الفِكرِ، والحُريَّةُ العَمياءُ، ما جِئنا بِعَصرِ البؤساءْ
عَصرُنا كانَ انبِعاثَ الحبّ، لَم يرضَخ لأشكال القُيودْ
لَم تَقِف في وَجهِهِ الطّامِحِ للعَلياءِ لِلآفاقِ جُدْرٌ أو حُدودْ
كُلُّنا في نَظَرِ العَدلِ سَواءْ
رَجُلٌ وَامرَأَةٌ في نَظَرِ العَدلِ سَواءْ
إن تَكُن أختاً لَهُ فَهوَ أَخوها.. ولْيَدُمْ عهدُ الإخاءْ
والوفاءْ
أو تَكُن سَيِّدَةً بَينَ النِّساءْ
فَهوَ سَيِّدْ
فَإذا شاءا اللِّقاءْ
بَنَيا عُشّاً بِعَهدِ اللهِ في جَنَّةِ حُبٍّ وَصَفاءْ
أُسرَةً بارَكَها اللهُ وَيَرعاها شِريكٌ وَشَريكَهْ
إنَّهُ قسطاسُ عَدلٍ مُستَقيمْ
رَجُلٌ في كَفَّةٍ وَامرَأَةٌ في الكَفَّةِ الأُخرى تُقيمْ
فَهيَ إن شاءتْ فَفي المَنزِلِ في مَملَكَةِ الحُبِّ أميرَهْ
وَإذا شاءَت تَبارَتْ مَعْ أخيها في مَيادينَ كَثيرَه
لَم نَعُد نَحتاجُ في تَشييدِ ما نَبغي فَقَطْ عَزمَ الرِّجالْ
لَم تَعُد أُختي بِلا عَزمٍ فَما نَنعَمُ فيهِ
مِن رُقيٍّ فَلَها فَضلٌ عَلى الأمَّةِ فيهِ
لَم يَعُد ساعِدُها رَخواً لضَعفٍ وكلالْ
إذ غدت بنتُ الحجالْ
عندنا أختَ الرجالْ
لَم تَعُد أختي بِضاعَهْ
يَشتَريها مَن لَدَيهِ الثَّمَنُ
قِطعَةً قَد يَقتَنيها لِهَواهُ الفَطِنُ
مِن أثاثِ البَيتِ كرسِيّاً إطاراً أو أريكَهْ
لا شريكَهْ
قد يُغَنّي حظّها الحُلْوُ فيستحلي سماعَهْ
فتعيش العمرَ في قصرِ الأمانيِّ مُطاعَهْ
أو يكون الحظ مُرّاً حنظَلِيّا
فتعاني كبوةَ الحبّ ولمّا تقضِ فيه غيرَ ساعَهْ
لم تعدْ أختي بضاعَهْ
محضَ تمثالٍ ثوى في الركن ثلجاً مرمريّا
لَم تَعُد في البَيتِ قِنديلاً ثُرَيّا
دُميةً زُهرِيَّةً أو شَمْعَدانْ
تحفةً قَد يَقتَنيها لِهَواهُ من عقيقٍ أو جُمانْ
ثُمَّ تُرمى فَوقَ رَفٍّ لِلغُبارْ
فتعاني فوقه ذُلاً وصمتاً أبَدِيّا
أَو تُدَلّى مِن أَعالي السَّقفِ أو تُصلَبُ في صَدرِ جِدارْ
فَتُقَضّي العُمرَ في بَهوِ انتِظارْ
رَجُلُ الأمسِ الذي كان ظلامْ
أسودَ القلبِ شغوفاً بالحِمامْ
والذي قَطَّعَ حبلَ الوُدِّ لم يرعى الذّمامْ
رَجُلُ الأَمسِ الذي زَمجَرَ في أَيّامِكُم وَحشاً مُخيفاً
وَعَنيفا
لم يُقِمْ وزناً لإخوانٍ كِرامْ
أو لِحُبٍّ وَاحتِرامْ
أسدُ الأمسِ الهصورْ
صارَ في أَيّامِنا أوفى الطُّيورْ
قَد غَدا في جَنَّةِ الحُبِّ أَليفا
وَلَطيفا
لمْ يَعُدْ يَحْكمُ فينا مَلِكٌ يَشْرَبُ دَمْ
عَرشُهُ هَامٌ، وَأحْجَارُ البَلاطْ
مِنْ سيوفٍ وَسِياطْ
كلما زَالَ نهارٌ يَستحمْ
بدموعٍ جلبوها من ينابيعِ الكُروبْ
عصروها مِنْ عيونٍ وَقلوبْ
وحشا صبٍّ كئيبْ
وَإذا مَا أقبلَ الليلُ اتكا فوقَ بِساطْ
مِنْ شِفاهِ الضَّارعينْ
وَجُلودِ المارِقينْ
لَمْ تَعُدْ كلمَةُ سُلطانٍ حَقيقَهْ
فَهْيَ رَمْزٌ لأسَاطيرَ عَتيقهْ
لعصورٍ في دياجي جهلها ماتت غريقَهْ
منذ آمادٍ سحيقَهْ
لبسَتْ أيَّامُنا بيضَ الثيَابْ
وتحلّى الناسُ بالوُدّ ارتَدَوا أبهى الخِلالْ
وانتشى الكونُ بأعْرَاسِ الجَمَالْ
رغمَ بَعْضٍ مِن هَناتْ
مُنكَراتْ
لم تصلْ في القُبحِ مرمى الوَصَماتْ
من فلولِ الجهلِ لم يُكتَبْ لها طولُ حياةْ
جمحتْ حادتْ عن الدربِ فرُدَّت للصّوابْ
لمْ تُشَوِّهْ نضْرَةً حَامَتْ عَلينا
مِثلَ أمْوَاجِ الرُّخَامْ
أوْ تُقَلِّصْ بَهْجَةً أوْ فَرْحَةً زُفّتْ إليْنا
مِنْ سَلامٍ وَوئامْ
وَهيَ حيناً تَتَراءى لِلعَيانْ
فَيُغَطّي وَجهَها وَردُ الحَياءْ
وَتُواري نَفسَها مِن خَجَلٍ خلفَ الضّياءْ