يقولون ليلى - محمد موفق وهبه

يَقولونَ: لَيلاكَ بِنتُ العِراقِ مَريضَهْ
وَأَينَ الطَّبيبُ اللبيبْ
وَراءَ الفُراتِ يُداوي الحَبيبْ..؟
وأسطورةُ المكرماتْ
وموطنُ كلِّ فؤادْ
وَجَوهَرَةُ المُدُنِ الخالِداتْ
بِعِقدِ المَدائِنِ..! بَغدادُ أُمُّ البِلادْ..!
تَفَحَّمَ أَثداؤها في أَتونِ الدَّمارْ
وَصارَ حَليبُ الصِّغارْ
دَواءُ الصِّغارِ، سُخامْ
فَحَيثُ تَجولُ العُيونُ رَمادْ
وَحَيثُ تَجولُ العُيونُ حُطامْ
وَأَشرِعَةٌ مِن ظَلامْ
تغطي حقولَ القَتادْ
وَلَيلٌ طَويلٌ يَمُرُّ على البؤساءْ
دُهوراً يَمُرُّ ولا من نجاءْ
ظَلامٌ يَطوفُ يُغَطّي سَوادْ
وَمَوّالُ حُزنٍ عَميقْ
يُرَجَّعُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ سحيقْ
يُفَتِّتُ صُمَّ الصِّفاحْ
يطوف الربى والبطاحْ
يُحَلِّفُها بِقَديمِ الوِدادْ:
أَلَيسَ لِلَيلِ العِراقِ صَباحْ..؟
وشرذِمَة جُبِلَتْ من خسيسِ الطِّباعْ
تنصّلَ منها الخنازيرُ كِبراً، ترفّعَ عنها الضّباعْ
من الحاقدين لُصوصِ الشُّعوبْ
تُعِدُّ النيوبْ
لِتَمزيقِ ما قَدْ بَقي مِنْ لُحومِ الجِياعْ
وما زالَ يَطرُقُ آذانَنا كلَّ حينٍ نُباحْ
ويوقظنا كُلَّما غَطَّ في النَّومِ جَفنٌ قَريحْ
وَيَتبَعُهُ مِن بَعيدٍ فحيحْ
عويلٌ صياحْ
وتلطمُ أبواب صمتِ البيوت الرياحْ
لتحمل من خلفها بعضَ حشرجة ونواحْ
وَذُعراً يَجولُ وَيَركُضُ في كُلِّ دَربٍ مساءَ صباحْ
يَقولونَ: لَيلاكَ بِنتُ العِراقِ مَريضَهْ
وأَلفُ استِغاثَةِ أُختٍ سِواها
خلالَ القبورِ تناجي الإلهَ
وتندبُ معوِلَةً لا تكفّ ولا تستريحْ
تنادي فتاها.. أخاها.. أباها
وزوجاً ثوى معهم في ضريحْ
وَأَلفُ استِغاثَةِ أُمٍ تصيحْ
تُذيبُ القُلوبْ
تصمُّ مَسامِعَ كَونٍ فَسيحْ
وَما مِنْ مُجيبْ
وَأَلفُ استِغاثَةِ شَيخٍ جريحٍ كَسيحْ
مُقَطَّعَة بِأَنينِ التَّوَجُّعِ تَعلو تَسيحْ
تَجوبُ المَدى وَتَرِنُّ بأُذْنِ السَّماءْ
وَقَد تَضمَحِلُّ عَياءْ..
تَضيعُ سُدىً في أَخاديدِ وادي الفَناءْ
وَليسَ سِوى الصَّمتِ وَالرّيحِ مَنْ يَسمَعانِ النِّداءْ
يقولونَ: شَعبُ العِراقِ جَريحْ
وأين الطبيب النصوحْ
ومُهْرُ الشّهامة فينا مُدَمّىً طريحْ
قتلنا الإباءَ قتلنا الضميرْ
ورحنا نخوض بوَحلِ الضّلالْ
عقولٌ خِفافٌ همومٌ ثِقالْ
وأعدادنا كالنّمالْ
مُصِمّين آذانَنا لا نبالي لصوتٍ نَصوحْ
ولمْ نكترِثْ أينَ يُفضي المسيرْ
ولم نسأل المرشدين متى سيُطِلُّ البشيرْ..؟!
متى سوف ينبثِق النورُ هل سنرودُ وميضَهْ..؟!
ولو كان في دمنا قَدْرُ خَرْدَلَةٍ غَيرَةً وانفعالْ
ومن نخوةِ الشرفاءِ جناحُ بعوضهْ
وشيءٌ من الكبرياءْ
وبعضُ إباءْ
لما قادنا كالنعاجِ عَدوٌ غَشومْ
فأثكلَ أماً وأضنى يتيمْ
وأشقى الكريمَ الحليمْ
أذَلّ القُرومَ أهانَ الحَريمْ
وأخرجَنا من نعيمٍ مُقيمْ
إلى شَظَفٍ وجحيمْ
وقد أقسمَ المارقون بأنا سنشبعُ ذُلاّ
سنبقى على عجزنا المستديمْ
ولو رجعَ الشيخُ طِفلا
ورُدَّ الصِّبا للعجوز كما كانَ قَبْلا
وعاد إليها الفتون الذي قد تولّى
وعادتْ تداوي السقيمَ الكَليمْ
وتُردي السليمْ
سنبقى على عجزنا المستديمْ
مع الوَحْلِ تحتَ الصخورْ
مع الخوفِ بين القبورْ
مع الدود في النَّفَقِ الضّيِقِ
ولو غابت الشمس في المشرقِ
وحلَّ الشروقُ محلَّ الزوالْ
وكَرّت فحولُ الجِمالْ
وما لا يُعَدّ من الأينُقِ
وأفيِلَةٌ جَمّةٌ عبرَ سَمِّ الخِياطِ
بكلِّ نشاطِ
بلا مُغرياتٍ ودونَ سِياطِ
سنبقى على عجزنا المستديمْ
ولو قامَ أهلُ المقابرِ من ماتَ أمسِ ومن هلكوا من قديمْ
وأصبح كلُّ مُحالْ
وما لا نراه بعين الخيالْ
من المنطِقِ
سنبقى على عجزنا المستديمْ
سنبقى نيامْ
بلحد التقهقر.. لن نرتقي
ولن نستطيعَ القيامْ
ألِفنا الركوعَ ألِفنا الخنوعْ
ألِفنا الظلامْ
فكيفَ نقومْ..؟!
وكيف نواري تشوه أرواحنا عن عيون الأنامْ..؟!
سيبقى يلاحقنا العارُ حتى يدق الحِمامُ العظامْ
وتغدو الجسومُ رميمْ
دفنّا الحَمِيَّةَ في جدَثِ المعتصِمْ
فمن هتفتْ باسمِهِ أمسِ نامتْ بحضنِ الخيالْ
قريرةَ عينٍ وبالْ
وثغرٍ كسَوسَنَةٍ مُبتَسِمْ
لقد أنجدتها مروءَةُ خيرِ الرجالْ
بخيرِ زمانٍ تَغنّى به الدهرُ زيَّنه بعظيمِ الفِعالْ
فمن مُنجدٌ أخواتٍ لها اليومَ من دنَسِ الإحتلالْ..؟
وفي زمنٍ أجردٍ من مَجيدِ الخِلالْ
بغيضٍ قبيحٍ خبيثٍ يعضّ الكِرامَ لكَي ينتقِمْ
ولا خيرَ يُرجى منَ الناس فيهْ
ويا ليتنا لم نكن من بَنيهْ
نفوسٌ مريضَهْ
أمانٍ عريضَهْ
وكِبرٌ وتيهْ
وألسنةٌ للنزالْ
سيوفاً رماحاً طِوالْ
فنحن جميعاً نُجيدُ الكَلِمْ
ونخشى الفِعالْ
هجرنا النضالْ
أضعنا عظيمَ الخِصالْ
بتيهِ الضلالْ
تخلى الجميعُ عن المكرُماتْ
شَرَوا إرثَهُمْ من حميدِ الصّفاتْ
بِبَخسٍ من التّرّهاتْ
فلا ندفعُ الضّيمَ عمّنْ ظُلِمْ
وليس بساحاتنا مِنْ نصيرْ
لمن جاءنا يستجيرْ
يناشدنا بالرحِمْ
فيا أيها العربيّ
لقد كنتَ يوماً شجاعاً كريماً أبيّ
وترعى الذمامَ وتحمي الذِّمارْ
ولكنك الآن خنت العشيرةَ خنت الدّيارْ
تخليتَ عن كلّ شَيّ
فمعذرةً يا ابن عمّيَ معذرةً يا أُخَيّ
فلو صُنتَ بعضَ طباعِ جدودِكَ لم أنتقصْكَ ولم أتّهِمْ
أَلَمْ ترَ أنّا حنَينا الرؤوسْ
أهَنّا النفوسْ
حملنا المذلةَ فوق الظهورْ
لبسنا ثيابَ الخُنوعْ
ومن مطلعِ النور رحنا نسيرْ
نريد التحررَ مما ورثنا نريد العُبورْ
إلى الجانبِ المُدْلَهِمْ
نزلنا الحضيضَ الوضيعْ
وحين أردنا الرجوعْ
غرقنا ببحر الخضوعْ
ولم يبقَ من بيننا من سَلِمْ
عرينُ العروبةِ أضحى حُطاما
وأشبالها شُرَّدٌ في البلادِ يتامى
وماتت أواصِرُ قربى
رعتنا دهوراً سقتنا وداداً وحُبّا
يقولون ليلاك بنتُ العراق مريضهْ..
ومَنذا يداوي الحبيبْ..؟
إذا كُنتَ أنتَ الطَّبيب القريبْ
دماً ولساناً وروحا
غدوتَ بعيداً غريبْ
وَلو كانَ جُرحٌ يُضَمِّدُ جُرحا
يُفَرّجُ همّا..
ويكشف غمّا..
ويبرئُ سُقما..
لأَرسلتَ وَفدَ كُلومِ الفؤادِ مساءً وصبحا
ليُسعِفَها بِالشِّغافِ المُدَمّى
فَمَعذِرَةً يا جِراحَ العِراقِ وصفْحا
فَمَعذِرَةً يا مَلايينُ ذُرَّتْ أمانِيُّها في التُّرابْ
وَأحلامُها غُرِسَتْ في خَرابٍ يَبابْ
وَتُروى بِماءِ السَّرابْ
فَلَيسَ لَدَيَّ سِوى الرّوحِ أَبذُلُها لِلعَطاءْ
فِدى الضعفاءْ
فدى البؤساءْ
فدى المُثخَنينَ بِأَيدي النَّذالَهْ
بأَيدٍ أَتَتْ ترفع الظلم باسمِ العدالهْ
فزادتهمُ مِحنةً وبلاءْ
حياتي الفداءُ لإخوَةِ روحي
لأخوة قلبي القريحِ
وَيرخصُ كُلُّ عَطاءٍ وَكُلُّ فِداءْ
بِأَعماقِ أعماقنا في وجيبِ القلوبْ
ولَهْجِ اللسانْ
سَتَبقَينَ بَغدادُ خالِدَةً كالزمانْ
ولهفةُ آمالنا لن تخيبْ
بكل هَصورٍ غضوبْ
من الصامدين بوجه الخطوبْ
من الثائرين شظىً من لهيبْ
لطردِ العدو الجبانْ
وردّ الأمانْ
وَمَهما استَباحوا الدّيارْ
وعاثوا بِأَنحائها مِن فسادْ
فَلَن يُطفئوا لهباً للجهادْ
زكت نارُه في الدماءْ
بِلَيلِ العَنا فأضاءْ
ورفرفَ بَنْدُ الفخارْ
بجنحين من كبرياءْ
فما أبخسَ الإنتصار
إذا لم يُزَيّنْ رباكِ احمرارْ
ستَبقَينَ بَغدادُ رمز كفاح الشعوبْ
وأغلى شعارْ
يبشّرنا بالنهارْ
وفي دولة الحبّ أمَّ القلوبْ
ونفدي هواكِ بِأَرواحِنا.. ما شَدا عَندَليبٌ وغنّى هَزارْ
.
دمشق 1999