رسائل إلى صديق من الحارة القديمة - محمد موفق وهبه

1
صديقيَ العزيزْ
تحيةَ الأشواقِ منْ فؤادِيَ المُقيمْ
على الوَفا لِلصَّاحِبِ القديمْ
لِذكرياتٍ لمْ تزلْ تحيا بِنا حَميمَهْ
لِعُمُرٍ عِشناهُ في حارَتِنا القديمَهْ
اليومَ يا صديقيَ العزيزْ
وصلتُ للنتيجةِ الحَتْمِيَّهْ
تلك التي كانت على باصرَتي خفيَّهْ
عرفتُ أنَّ كلَّ ما نادتْ بهِ الحكمةُ والأديانْ
عنْ رابطٍ يجمعنا يدعونه الإخاءْ
تَغزِلُهُ ثم تحيكُهُ لنا المَوَدَّهْ
براحَتَي حنانِها مخدَّهْ
قدْ طارَ في الهواءْ
هباءْ
وأنَّ ما قدْ حصَّنَ الإنسانَ بالإنسانْ
في غابرِ الأزمانْ
أجنحةٌ لِطائرِ الحنانْ
كانتْ على هُمومِنا مُمْتَدَّهْ
شِعارُها: الوِدادُ بينَ الناسِ منْ عِبادةِ الرَّحمنْ
وحينما تَبَرَّأَ الإنسانُ من إنسانهِ
وسيطَرَ الشّرُ على إحسانهِ
وأحرق الكونَ لظى عدوانِهِ
ودمّرَ الحُبَّ وخانَ عهدَهْ
هاجر ذاك الطائرُ الحبيب من ربوعِنا
لم تُجدِ في استعطافِه الأنهارُ من دموعِنا
وكم دعونا الله أن يردَّهْ..!
لمْ يَبْقَ في الإنسانِ إلا صورةُ الإنسانْ
تملؤها الشُّرورُ والأحْقادُ والأطماعْ
يهوي بها التقهقرُ المخيفُ للضَّياعْ
وكانَ في كوكبِنا يعيشُ فيما بينَنَا في مَرْتَعِ الحَياهْ
في مرتع الإخلاص والعرفانِ والإحسانْ
وحينما أغضبَ في أعمالِهِ الدَّنِيَّةِ الإلهْ
وَاراهُ حيّاً أهلُهُ في جَدَثِ النِّسْيانْ
فلمْ نعدْ نسمعُ عنهُ اليومَ أوْ نَراهْ
فإنْ تسلْ عنهُ نُجِبْكَ كانْ
فيما مضى منْ سالفِ العصورِ والأوانْ
يعيشُ فيما بيننا إنسانْ
رَمَتْهُ مِنْ عَلْيائِهِ.. من عالم النّقاءْ
مِنْ عالمِ الفَضيلَهْ
مِن عالمِ الجمالْ
بَراثِنُ الرَّذيلَهْ
فَغاصَ في الأوحالْ
اليومَ يا صديقيَ العزيزْ
عرفتُ أنَّ كلَّ ما نادتْ بهِ الحكمةُ والأديانْ
عنْ رابطٍ يجمع من في الأرضِ من سُكّانْ
يدعونه الإخاءْ
تَغزِلُهُ المَوَدَّهْ
براحَتَي حنانِها مخدَّهْ
قدْ طارَ في الهواءْ
هباءْ
لم يبق إلا حسرةٌ في الناسِ
فقلتُ حين لم ترَ العينانِ غيرَ خيبةٍ وياسِ
وَا عَجَبي..!
تعرّت الغصون من أزهارها البيضاءْ
وأكل الهوانُ ما في مَرجِنا من يابسٍ وغَضِّ
واقتحمت خناجرٌ مسمومةٌ بالبغضِ
تُمزقُ الجُسومَ والأرواحْ
وا عجبي مِنْ عالَمٍ صارَ بهِ الإنسانُ لِلإنسانِ مُسْتَباحْ..!
في دمهِ ومالِهِ وَالعِرْضِ
وَا عَجَبي ممن براه الله من طين وماءْ..!
فكان جباراً على الأقرانْ
وقلبُهُ من حجرٍ صوّانْ
وا عجبي.. كَأنَّ مَنْ يَحْيَوْنَ في كَوكَبِنا
ليسوا بني الإنسانْ..!
كأنَّ من يَحيَونَ فيما بيننا
من جندِ إبليسٍ ومن سلالة الشيطانْ..!
2
صديقيَ العزيزْ
تسألُني عنْ ذكرياتٍ لمْ تزلْ في البالْ
فوّاحةً مخضلةَ الأكمامْ
كأجمل الأحلامْ
ما أعجبَ السؤالْ..!
وأنت من شاركني طفولتي السعيدهْ
تلك التي لمْ تستطع مباضِعُ الأيَّامْ
أن تنزع الفتنةَ والجمالْ
عن وجهها فلم تزلْ وليدةً جديدَهْ
ولم تزلْ حديقةً وارفة الظلالْ
نديةً مُزهرةً غنّاءْ
ترتاح في الذاكرة الصفراءْ
أذكرُ أنَّا لمْ نكنْ نعرفُ إلا الحبَّ والسلامْ
لمْ يكنِ الخصامْ
يُبعدُنا عنْ ضحْكِنا وَلَهْوِنا الحلالْ
أكثرَ مِنْ هُنَيْهَةٍ فَريدَهْ
مَهما تشاجَرْنا معَ الأطفالْ
في الحارَةِ الأخرى وفي الأزقَّةِ البعيدَهْ
لا بُدَّ أنْ يسودَ في النِّهايَةِ السلامْ
لابُدَّ أنْ يَلُمَّنا السلامْ
لابُدَّ أن يَضُمَّنا لِصَدْرِهِ الوِئامْ
مازالَ رسمُ حارتي في داخِلي يَطوفْ
يَحضنني، أحضنهُ في أضلُعي، في خاطري ينامْ
يَسكُنُ في بالِيَ لا يَضيعُ مِنِّي لحظةً يلوحُ كالطيوفْ
أبُثُّه الهُمومَ والأشواقَ والهُيَامْ
يُنيرُ دَربي كُلَّما حاصَرَنِي الظلامْ
في غابَةِ المدينَةِ السَّوداءْ
وكلما ادلَهَمَّ أُفْقُها المخيفْ
وأُغلِقتْ نوافِذُ الفضاءْ
بِسُحُبِ الدّخانِ والسُّخامْ
واختنقَ الفُؤادُ لا شَمسٌ ولا هواءْ
وغاصَ في الضَّجيجِ وَالضَّوْضاءْ
وابتَلَعَتْهُ أبحرُ الزِّحامْ
وكادَتِ الأقدامْ
تَدوسهُ فَيَأتي رسمُها العتيقْ
منْ داخِلي تَأتي إلَيَّ حَارَتِي، يَأتي إلَيَّ طَيفُها الرَّفيقْ
يَنْتَشِلُ الغَريقْ
3
مازِلْتُ يا صَديقْ
بالرغم من جَورِ الزمانْ
بالرغم مما صنعَت جنودُه بجسميَ الضعيفْ
في غزوها العنيفْ
بالرغم من ذاكرتي السقيمَهْ
أذكُرُ كلَّ ساكِنٍ في حارَتي القَديمَهْ
وَكُلَّ منْ قدْ رَحَلوا عنها ولمْ يَعودوا
وكلَّ منْ طاب له من بعدهم مربعُها وظلها الممدودُ
ورابطُ الوئام والإخاءِ والعيشُ الرغيدُ
جميعُهم لم ينزحوا عن جنة الوجدانْ
لا الشيخُ لا الفتى ولا الوليدُ
ما زلتُ أحيا معهم في ظلها الوريفْ
كأننا لم نفترق ولم تشتت شملنا الأنواءْ
لم تبتلع طيوفَهم مَغاوِرُ النسيانْ
وإنما قد غَيَّبتْ أجسادَهم في جوفِها المخيفْ
عمالِقُ الإسمنت في المدينة الشّوهاءْ
قدْ يشمخ البِناءُ في مدينةِ الدّخانْ
لكنّ جوفه الكبيرَ لا يحوي سوى أجسادْ
جمعها المكانْ
لم يربطِ الوِئامْ
أرواحَها التاهَت بغيرِ وادْ
فها أنا في محشرٍ يغصُّ بالأنامْ
ومنْ يعيشونَ مَعي يُحْصَونَ بالألوف والألوفْ
لكنني أعيش بينهم بلا فؤادْ
أعيش بينهمْ وروحي عنهمُ بعيدَهْ
هاربةٌ شريدَهْ
تجول في فدافدِ الزمانْ
دائمةَ المسعى وقلبي خلفها رديفْ
على جناحٍ دائم الرفيفْ
لا يَنِيانِ يبحثانْ
عن منبع الحنانِ والودادْ
عن جنةٍ مفقودَهْ
داست على رفاتها المدينة الحقودَهْ
شتان بين أمسنا وهذه الأيامْ
يجمعنا المكانْ
كأنَّنا في الكُتُبِ الكَلامْ
واندَلَقَ الحبرُ على أوراقِها، فليس إلا برقعُ السّوادْ
لاشيءَ مِمَّا كانَ في حاراتِنا القديمَهْ
يَلمُّنا يضمنا بأضلع الحنانْ
والمهجةِ الحانيةِ الرحيمَهْ
لاشيءَ مما كانْ
تَراهُ في المدينةِ الخرساءْ
في كلِّ بُقعَةٍ منَ المَدينَةِ السوداءْ
في كُلِّ شِبرٍ يلتقي الأحياءُ بالأحياءْ
في كلِّ حينٍ يُمكِنُ اللِّقاءْ
يمشونَ يلتقونَ بالمئاتِ والمِئاتْ
جحافلٌ جحافلٌ.. لا تنتهي الصفوفُ والزحوفْ
في السّوقِ في الشَّوارِعِ الكُبْرى وَفي السَّاحاتْ
في مَدخَلِ البِناءِ أو فوقَ الرَّصيفْ
وقدْ يُعَبَّؤونْ
في جوف مصعدٍ كما الفراخُ في أقفاصِها الصغيرهْ
أوْ يُحشَدونْ
تَضُمُّهمْ حافِلَةٌ مَصْرورَةْ
قدْ يُسندُ الكِتْفُ إلى الكِتْفِ وقدْ تَناطَحُ الرُّؤوسْ
وَتُحشَرُ الآذانُ وَالأُنوفْ
وتُبحِرُ العُيونُ في العُيونْ
تحملها أشرعة الذُّهولِ وَالعُبوسْ
صُمٌّ وَبُكمٌ لَيْسَ يُدنيهمْ سلامُ اليَدِ والكلامْ
كَأَنَّما أَجسادُهُم بِلا نُفوسْ
كأنَّهمْ حِجارَةٌ.. أصنامْ
فكيفَ يسمعونْ..؟
أوْ ينطقونْ..؟
4
مازلتُ يا صديقْ
إذا غزت جيوشُ الاِكتِئابْ
فؤاديَ المشوقْ
وزاد من وجيبِهِ التّذكارْ
وعاده الحنينُ للديارْ
لمربعِ الأصحابِ والأحبابْ
وساد في أنحائه هَمٌّ وضيقْ
أحنو عليه مشفقاً أمّاً على الوليدْ
أُركِبُهُ أرجوحةَ النشيدْ
أضمه أسكب في مسمعه ألحانيَ العِذابْ
أندى أهازيجي وأغنياتي
أروعَ ما غنيتُ في حياتي
أُجلِسُه بجانبي ودونما عتابْ
أُقَلِّب الصفحاتِ والصفحاتِ
في دفترٍ أوراقهُ الأيامْ
سطورُه محفورةٌ في البالِ لمْ تخطَّها أقلامْ
أجول فيها بينَ ذكرياتي
نقرؤها معاً فنستعيدْ
سُويعَةً من عُمُرٍ سعيدْ
عُمْرٍ من الهناءِ والسلامْ
عشناه في مرابع الكرامْ
في حارتي في المَرْبَع الرغيدْ
فينجلي الضبابْ
ويرجع الصفاءُ لا همٌّ ولا اضطرابْ
صديقيَ الودودْ
لَمْ تَبرَحِ الأَعيادُ في حارتنا أَحلامي
ولم تزل أطيافها ماثلةً أمامي
ولم يزلْ فؤاديَ العميدْ
يذكُرُ كلَّ عيدْ
مَرَّ عليها عِشْتُهُ فيها معَ الأحبابِ والأصحابْ
إذْ كُنتُ لا أنامُ لا يَغلِبُني النُّعاسْ
في لَيلَةِ العيدِ وَإن نِمتُ فَقَبلَ أَن يُفيقَ النّاسْ
وقبلَ أن يستيقظ الشحرورُ والعصفورْ
يوقِظُني السُّرورْ
وحينما يشرع ديكُ الفجرِ بالصياحْ
مُصَفِّقاً يُبشر النيام بالصباحْ
يَشعُّ في جسمي انتعاشْ
تستيقظُ الأعصابُ والعُروقُ
فلا أعودُ أرتضي السكونَ أو أطيقُ
أجول في الغرفاتِ كالفَراشْ
أُهيب بالجميع أن يغادروا الفِراشْ:
" قد سطعَ الشعاعْ
وفَتَّحَ الصُّبْحُ افْتَحوا أعيُنَكُمْ أفيقوا
عيدٌ مُبارَكٌ ". وَأعدو أفتحُ المِذياعْ
يُسْمِعُنا تَرنيمةَ التوحيدْ
تُظِلّنا بالحبِّ وَالوِئامْ
تطربنا بأعذبِ الكلامْ
فتعبَقُ الأجواءُ بالتغريدْ
ونلبسُ الجديدْ
"عيدٌ سعيدْ "
" أعادَه اللهُ عَلى الأَنامْ "
" باليُمْنِ والخيراتِ والسلامْ "
يقولها أبي لنا مُنشرِحَ الفؤادِ
فنلثمُ الوَجْناتِ والأيادِي
وعِنْدَها يكونُ قدْ حانَ الذَّهابْ
إذْ نَسْمَعُ الصَّفيرَ منْ رِفاقِنا يَخْتَرِقُ الأبوابْ
نخرجُ مسرعينْ
وتَمْتَماتُ أُمِّنا بِصَوتِها الحَنونْ
تَصدَحُ مِنْ وَرائنا تَلْهَجُ بِالدُّعاءْ
نمضي معَ الأقْران حيث ترسمُ الأهواءْ
نقطفُ كلَّ مُتْعَةٍ تسوقنا لها الرغائبْ
منَ المُفَرْقَعاتِ لِلْحَلوَى لِصُنْدوقِ العَجائِبْ
ثُمَّ إلى أُرْجوحَةِ الحِبالِ
يَدْفَعُها الأطفالُ لِلأطفالِ
تطير في الفضاء كالعُقابْ
تَعْلو وَتَعْلو ثمَّ تَهوي مثلما الشّهابْ
ثمَّ تعودُ تَسبِقُ النسورَ للأَعالي
أينَ رفاقُ حارَتي..؟ يا ليتنا نعودْ
هَيهاتَ لَوْ تلمُّنا الحياةُ منْ جديدْ
هَيهاتَ لوْ يجمَعُنا طريقْ
هيهاتَ يا صديقْ
5
صديقيَ الحبيبْ
مَهْما تلاعَبَتْ بِنا بَراثِنُ التَّشتيتْ
فَلَم يَزَل في خَلَدي يَعيشُ ما حييتْ
بائِعُنا الطَّروبْ
با ئعُنا الغِرّيدُ بَلْ صَدّاحُنا الجَوّالْ
يدورُ مُعلِناً عن الثمارِ لا ينالُه الكلالْ
يسبقه النشيدُ نحو حَيِّنا.. فترقصُ الدّروبْ
ويُهرَعُ الأطفالْ
فيملأ الجيوبَ من حبّاته الحمراءْ
وتنعمُ الطّاقاتُ وَالأَبواب بالغناءْ
وتنتشي الأنحاء والأجواءْ:
" دِرِنْ دِرِنْ .. يا زَعْبوبْ "
" البِذرُ بُنْ يا زعبوبْ "
يصدحُ في الحاراتِ والأحْياءْ:
" يشفي من الأوصابْ .. خذ منه للأحبابْ "
" شَهْدٌ مُذابْ "
" لِلثَّغْرِ طابْ "
" يا زعبوبْ "
بِضاعَةٌ لولا النشيدُ ما عرفناها:
" يا حُلْوُ قَرّبْ "
" خُذْ مِنْهُ جَرّبْ "
" حُمْرُ الخدودْ "
" لَوْنُ الوُرودْ "
" دِرِنْ دِرِنْ .. يا زعبوبْ "
حَبَّبَها لِلعالَمينَ حينَ سَوّاها
أُنشودَةً يَلذُّ لِلآذانِ مَغناها
حَتّى غَدَتْ أبوابُنا تَهواها
فَما أُحَيْلاها وَمَا أشْهاها
فأينَ مِنَّا اليومَ ذاكَ البائعُ الطروبْ
لَعَلَّهُ قَدْ تاها
أو غاص بالعتمة في مدينة الظلامْ
أو أغرقته أبْحُرُ الزِّحامْ
أو أنها وارتْهُ في ضجيجِها شَوارِعُ النِّسيانْ
فغصّ بالألحانْ
6
صديقيَ العزيزْ
تسألني عنْ ذكرياتٍ لم تزلْ فوّاحةَ الأزهارْ
ما شوَّهتْ جمالَها الأكدارْ
بالرغم من جحافلِ الخُطوبْ
خبَّأها وراءهُ الزَّمانُ لا تغيبْ
عَنْ أُفقِ بالي لَحظَةً لَيلاً وَلا نَهارْ
حدائقٌ مرفوعةُ البنيانْ
ما خطرتْ لأهلِ بابِلٍ ولم تبلغْ مقامَ حُسنِها الفتّانْ
أيٌّ من الجِنانْ
لمّا تَزَل تنفحني بالطّيبْ
مُقيمَةٌ في خاطِري ليستْ تَجوزْ
مهما ترامتْ فوقَها أقنِعَةُ الزَّمانْ
ما عِشتُ لا أنساه ذاكَ البائعَ العَجوزْ
يهزجُ للأطفالِ بالأشعارْ:
" إليَّ يا صغارْ "
" إلَيَّ يا حَسّونُ يا كَنارْ "
" حلاوَةُ السُّمْسُمِ وَالجَوْزِ "
" حلاوَةُ اللَّوْزِ "
" بِنِصْفِ دِرْهَمٍ بِدرهمٍ تَخَيرْ دونَ أَن تَحتارْ "
" ما تَشتَهي مِنْ روضةِ الأزهارِ والثمارْ "
" حلاوَةٌ بِنَكْهَةِ التفاحِ والمَوْزِ "
" حلاوَةُ الفُسْتُقِ والحَليبِ "
" تعالَ يا حبيبي "
" تعالَ يا حسونُ يا كَنارْ "
" ماذا يُحِبُّ الطَّيرُ أن يَختارْ "
منْ أجملِ الكلامِ كانَ ذلكَ الكلامْ
يَغْرِسُ ذلكَ العجوزُ بِذْرَةَ الوِئامْ
يغرس باللسانْ
شُجَيرَةَ الوداد والحنانْ
يَزرَعُ في أَفئِدَةِ الصِّغارْ
أنفسَ ما يملكُ مِن بِذارْ
فَأَينَ يا صَديقِيَ الصِّغارْ
أينَ تُرى الحسونُ والكنارْ
أعشاشُها تهدمتْ بمعوَلٍ جَبّارْ
صارتْ تُراباً تحتَ أبراجِ المدينَهْ
طارَتْ بعيداً مَزَّقَتْ أسْرابَها السُّطوحُ وَالمآذِنْ
وَسَوَّدَتْ ألوانَها الجميلةَ المَداخِنْ
وَا حَسْرَتاهُ.. لَيتَها تؤوبْ
قبلَ الغروبْ
ما أبشعَ العَمارْ
إن كان ما يترُكُهُ في الأنفسِ الدّمارْ..!
7
ما زال يا صديقُ طيفُ البائعِ الوَدودْ
يزورني في الحلْم مُنذُ زَمَنٍ بَعيدْ
يلوح في بالِيَ حين أنشُد السكينَهْ
وَرُبَّما القَليلُ مِن رِفاقِنا الّذينَ يَعرِفونَهْ
كُنّا صِغاراً عِندَما كَفَّ عَنِ الورودْ
لِحَيِّنا فَكَيفَ يَذكُرونَهْ..؟
غادَرَنا قُبَيلَ أن تُجتَثَّ من جذورها الدَّوالي
وتُمسَخَ الأفياءُ في ساحاتِنا بمنجَلِ الجُهّالِ
ليشربَ الهجيرُ قطراتِ الندى التبكي على الظلالِ
وتأكلَ الرّمضاءُ ما فيها منِ اخضلالِ
وتُمْحَقَ الخُضْرَةُ والزَّهَرْ
غادرنا قُبَيلَ أَنْ تُحَزَّ أَعناقُ الشَّجَرْ
ترمى نواصيها إلى التُّرابْ
وتغتدي الفُروعُ والجُذوعْ
أحطابْ
وقد قضت أعمارَها تزهو على البَشَرْ
تمرحُ في الأعالي
برفقة الحسون والشحرور والقَمَرْ
غادرنا قبيلَ أن يَهْجُرَنا الينبوعْ
ويصمُتَ الخرير في النَّهَرْ
فلم يعد ينسابْ
ولم يعد يؤمُّه الأترابْ
ليسبحوا بمائه الزلالِ
غادرنا قُبَيلَ أن نأسى على الربيعْ
ونسكُبَ الدموعْ
حينَ غدتْ فردوسُنا سَقَرْ
غادَرَنا قُبَيلَ أَن يُهَدّمَ البُنيانْ
في حيِّنا فتركعَ الجُدرانْ
وتسجُدَ السُّقوفُ والقبابْ
وتندُبَ الأَعتابُ وَالأبوابْ
أيامَها الخوالي
غادرنا قبيلَ أَن تَغتالَنا شَوارِعُ المَدينَهْ
وتغزوَ الحضارةُ الملعونَهْ
حضارةُ التكييفِ والتبريدْ
أحلامَنا، آمالَنا، تلعبُ فينا كيفَما تريدْ
فلَم نَعُد نراه من سِنينْ
حارَت به الظنونْ
غدا من الأحلام من فردوسنا المفقودْ
وليس كلُّ حلُمٍ يعودْ
فهَل عَرَفتَ الآنَ مَن يَكونْ..؟
مازالَ مُذْ غادَرنا في البالِ
يَجولُ في مراتِعِ الخَيالِ
يَصدَحُ بالمَوّالِ
حِمارُهُ الأَسوَدُ مِنْ وَرائِهِ يَنوءُ بالأحمالِ
أَلا تَعيهِ بائِعَ السَّويقْ..؟
ألا تعي مُطرِبَنا العَريقْ..؟
إذْ طالما أضحَكَنا غِناؤه الطَّليقْ..!
يَجيءُ من وادٍ عَميقْ
يأكلهُ الصَّدى
يَزيدُ من إبهامِهِ المَدى
وقَدْ يغيبُ صوتُهُ يَغوصُ مُبعِدا
يغمره السكوتْ
وفَجأَةً يَعودُ مُصْعِدا
يَعلو ويَعلو كلّما دَنا منَ البُيوتْ
يُعينُهُ الحِمارُ بالنهيق
معْ كُلِّ خُطوَةٍ على الطريقْ
يخترقُ الجدرانَ والأسوارْ
لِيَطْرقَ الآذانْ
إذ لَيْسَ يَنْجو مِنْ غِنا حِمارِهِ مَكانْ
فتُفْتَحُ الأبوابُ تَمْتَدُّ الأيادِي دونما اصطبارْ
بالثَّمَنِ الزَّهيدِ أو بخبزِها اليَبيسِ
وتُهرَعُ البناتُ والصِّبيانْ
يسبقهم حبورُهم، إليه بالصحونِ والصِّحافِ
مِنْ (لابِسٍ) حِذاءَهُ يعدو ونِصْفِ (لابِسٍ) وَحافِ
ساعينَ بَيْنَ أمَّهاتِهمْ وَبينَ بائعِ السَّويقْ
وَتُمْلأ الأجواءُ بِالهُتافِ:
" يَا بائِعَ السَّويق يَا.. يا بائِعَ السَّويقْ "
وَتُملأُ الصحافُ والصحونُ يا لَبَهجَةِ القلوبِ والنفوسِ
كَأَنَّها مِنْ وَهْجِها قدْ مُلِئَتْ بَالدُّرِّ أوْ بِاللُّؤْلُؤِ النَّفيسِ
وحينَما ينتصفُ النَّهارْ
يجلسُ ذاكَ البائعُ المُجَهدُ في الظِّلِّ إلى جِدارْ
يُريحُ جِسمَهُ منَ الطوافِ
غَيرَ بعيدٍ عَنْ رفيقِ دربِهِ الحِمارْ
وحولَهُ مِنْ زَحْمَةِ الأطفالْ
هِلالْ
وَيَسْألُ الشيخَ الذي أنهكَهُ الهَجيرُ والمَسيرْ
صَغيرْ:
" مِنْ أيْنَ يا عمَّاهُ تأتينا بهِ هلْ تشتريهِ ذلكَ السَّويقْ..؟ "
فيفتحُ العَينَ التي تاقتْ إلى الرّقادِ
مُبْتَسِماً يرنو إلى الأولادِ
يبحث عن ذاك الذي أيقظهُ بِرَنَّةِ السُّؤالْ:
" أحسنتَ يا صديقْ
آتي بهِ مِنْ قِمَمِ الجبالْ
قُبَيلَ أنْ يَزورَنا الرَّبيعْ
يكونُ ذاكَ الجبلُ الحاني على قريتِنا أمّاً على الرضيعْ
مازالَ في لِباسِهِ البَديعْ
نَسَجَهُ الثلجُ له بذوقه وفنّهِ الرفيعْ
فكان أحلى لوحةٍ أبدعها رسّامْ
فبلغ التمامْ
ألقاهُ فوقَ مَنكِبَيْهِ بُرْنُساً.. عَباءةً.. رِداءْ
وَلَفَّ حَوْلَ القِمَّةِ الشَّماءْ
عَمامَةً عظيمَةً بَيضاءْ
فَنَحْنُ يا أصحابيَ الكِرامْ
في مَوسِمِ الثلجِ بِكُلِّ عامْ
قُبَيلَ أنْ يرحلَ عن قريتِنا الشِّتاءْ
نمضي إلى العَمامَةِ البيضاءْ
بِمِبْضَعِ الحديدِ بالسِّكينِ بِالرَّفْشِ
نَقُصُّ مِنْ نَسيجِها الثلجيِّ ما نَشاءْ
نَحْشو بِهِ أجوافَ أكياسٍ مِنَ الخَيْشِ
أنا وَزَوْجَتي وأولادي وَمَنْ يَسطيعُ مِنْ أحفادي
كأننا في موسم الحصادِ
نعمل دائبين كالنّحل من الكبيرِ للصّغيرِ
نحملُ بعضَها على الجِيادِ
ونحملُ البعضَ على الحَميرِ
إلى مغارَةٍ لَنا قريبةٍ في الوادِي
نحفظها فيها إلى ميعادِ
إذ حينَما يفورُ حَرُّ الصيفِ كالتَّنُّورِ
وَيَلفَحُ الأجواءَ والأشياءَ والسُّكانْ
ولم يَعُدْ يُنقذنا الظّلُّ منَ الحَرورِ
يكونُ قدْ آنَ الأوانْ
فأقصدُ المكانْ
في كل يومٍ قبلَ أن أنامَ في المساءْ
أَدخلُ عبرَ جوفِه المقرورِ
أُخرجُ مِالأكياسِ ما أشاءْ
وحينما يصيحُ ديكُ الفجرِ في ميلاده الوشيكِ
مُسَبِّحاً للبارئِ المَليكِ
أكونُ قدْ صرتُ على الطريقْ
وحينما يشتعلُ النهارْ
ويَلفَحُ الهجيرُ كلَّ ساحةٍ ودارْ
أكونُ في المدينَهْ
أجولُ في أحيائها مُنادياً.. وخلفيَ الحمارْ
أعلنُ عن بِضاعَتي.. عن فضّةٍ مكنونَهْ:
" تعالَ يا حرّانُ.. هيا بَرّدِ العُروقْ "
" هيَّا إلى السَّويقْ "
" هيَّا إلى السَّويقْ "
8
صَديقُ مَهما بَعُدَ الزَّمانْ
وَشَوَّهَ الضَّجيجُ وَالزِّحامُ والدّخانْ
ما كانَ مِنْ مَفاتِنِ المَكانْ
واندثرتْ مرابعُ الجَمالْ
فَلَمْ أزَلْ أذكُرُ ذاكَ البائِعَ الجَوَّالْ
وحَولَه الأطفالْ
وَلَمْ تَزَلْ طاساتُهُ الحِسانْ
تَرنُّ في ذاكِرَتي وَصَوتُهُ الحَنونُ في الخَيالْ:
" تِرِنْ تِرِنْ.. تَعالَ يا عَطْشانْ "
" اشربْ شَرابَ السّوسْ "
" تِرِنْ تِرِنْ.. بالثلجِ عِرْقُسوسْ "
" تَعالَ بَرِّدْ دَمَكَ الحَرَّانْ "
" تِرِنْ تِرِنْ "
زَغْرَدَةٌ مَمْهورَةٌ بأعذبِ الألحانْ
تُطْرِبُ كُلَّ النّاسْ
أغنيةٌ من طائرٍ غِرّيدْ
تَأتي إلى حارَتِنا مُطربةَ النشيدْ
مِنْ حارة نائيةٍ أو شارعٍ بعيدْ
على جناحِ صوتهِ الرّنّانْ
كَأَنَّها زَغْرَدَةُ الأعْراسْ
تُرَطِّبُ الأجْواءَ بِالرَّذاذِ والعبيرْ
بِنَسمَةِ الجَنّاتِ في الهَجيرْ
" تِرِنْ تِرِنْ "
ويُسرِعُ الصَّغيرُ وَالكَبيرْ:
" نُريدُ عِرْقَسوسْ
نُريدُ عِرْقَسوسْ "
وَتُمْلأُ الكُؤوسْ
وَتَرتَوي الحُلوقُ وَالأبْدانْ
" تِرِنْ تِرِنْ "
ويترُكُ البَهجَةَ فِينا تلثم الأعتابَ والأبوابْ
مبتعداً عن حيّنا لِغَيرِه وغيرِه.. جَوّابْ
مُخَلِّفاً وراءه في كلّ مُهجَةٍ صَدىً مُذابْ
كَأنَّما الرَّنينُ مِنْ طاساتِهِ شَرابْ
سَقاهُ للآذانْ
فَأسْكَرَ الوجْدانْ
ماضٍ ذَوَى
شتته العمرانْ
فآل للخرابْ
لو أنصفَ الزمانْ
لم يُبعِدِ الأحبابْ
عن مرتع الصّبا وعن مرابع الشبابْ
ودون أن يُبالي
جرّدنا من أروعِ الخِصالِ
سلَبَنا الإحساسَ بالجَمالِ
واستَلَّ من قلوبنا الفَرَحْ
غمّسَها بالوَحلِ كي لا تعرفَ المرَحْ
أبعدَ عن نفوسنا براءَةَ الأطفالِ
حرَمها من علبةِ الألوانْ
بدَّلها بالهمِّ والأحزانْ
فلم يعدْ يزورنا بعدَ المطرْ
قوسُ قُزَحْ
ولم نعُدْ نضحك للقمرْ
إذا ظَهَرْ
والتّبرُ في الأفق انسفَحْ
ماضٍ ذوى
ذكراه في صدورِنا مجبولةٌ بالشوقِ والجَوى
زوالُه ما كانَ بالحُسبانْ
لو أنصَفَ الزمانْ
كان من المُحالِ
بكاؤنا يوماً على الأطلالِ
ما زلتُ يا صديقْ
تلسعني الجراحُ والحروقْ
ولم يزل فؤاديَ المشوقْ
يسأل في الغُدُوِّ والآصالِ
عن حارتي، يغصُّ بالسؤالِ
فتَشرَقُ المُهجَةُ بالدموعْ
فإن تَسَلْ صديقُ عن أحوالي
فإنني أحمل في الضلوعْ
قلباً ولوعْ
وعَبرَ كلِّ لحظةٍ على مدى الأيامْ
في الصحوِ والمنامْ
تظلُّ ذكرياتها تضوعْ
أحمل منها صُوَراً وصُوَراً تَلوحُ في خَيالي
هِيَ البَساتينُ التي أَبْحَثُ عَنْ أَشجارِها الظليلهْ
أقيلُ في حنانها مهجتِيَ العليلَهْ
ألوذُ هارباً إلى نسماتِها البليلَهْ
تُجيرني من هذه المدينةِ القائظةِ الظلالِ
وإن تسلْ عنْ أيِّ شيءٍ داسَهُ النسيانُ عِنْدَكْ
تَجِدْهُ حاضراً مَعي في البالِ
لم ينسَ عهْدَكْ
ولمْ يُشَتِّتْ شَمْلَهُ الزمانُ بَعْدَكْ
صديقُ: إنْ عَرَفتَ أيَّ واحدٍ مِنَ الرِّفاقْ
مِنَ الذينَ وُلِدوا.. تَرَعْرَعوا.. في ذلكَ الزُّقاقْ
مِنْ حَيِّنا في الحارةِ القَديمَهْ
فَأَعْطِهِ، أرجوكَ، رَقْمَ هاتفي وَاكْتُبْ لهُ العنوانْ
أَوْ دُلَّني عَلَيهْ
أو دُلَّهُ عَلَيَّ بل خُذني إِلَيهْ
دونَ تَوانْ
فإنها الغنيمَهْ
بل إنها فرصتنا العظيمَهْ
أن يلتقي الخِلان بالخِلانْ
لعلنا نُعيدْ
ما قد مضى من إرثِنا التليدْ
داسَتْ عَلى جَبينِهِ المَدينَةُ العَمياءْ
لعلَّنا نسطيعُ أن نُحَرِّكَ الإنسانْ
نرجعَه من غربة الجحود والنكرانْ
إلى رُبى النقاءْ
لَعَلَّنا نقدِرُ من جديدْ
أن نرفعَ البناءْ
في ساحةِ الوجدانْ
.
1997
* السويق: ما يتخذ من الحنطة والشعير. والسويق الخمر. والسويق هنا: هو الثلج الذي كان يُجمع من الجبال القريبة من دمشق ويضاف إليه الدبس وغيره ويقدم كالمثلجات في أيامنا هذه.
كانَ بَعضُ النّاس يشترون السّويق بالخُبز اليابس عوضاً عَن المال