برزخيّة محمود درويش - نائل الحريري

إلى (منتظر الزيدي) وعاشقي (منتظر الزيدي)
*
من دهشةِ الأشياءِ
أن أغفو على بُعدِ انتظارٍ آخرٍ
من آخِرِ الكلماتِ
يُلقيني السُّكونُ إلى السُّكونْ
أنِّي عَبَرتُ طريقَ أُمنيتي
على عُكّازتَينِ من التّأمُّلِ
ثمَّ – عفواً –
كنتُ في دربِ القصيدةِ/
ليسَ لي أن أنسِبَ الأمواجَ قسراً
عن بُحورِ حقيقةِ التيّارِ
نحوَ بحورِ شاعِرِها
ولا أن أُخرِجَ التَّاريخَ رغمَ سُطورِهِ
من خُرمِ إبرتِهِ... ليُبصِرَني
ويُعلِنَني أميراً/
كي يُعيدَ ليَ الوُجودَ
ويَستَعيدَ رِضايَ عنهُ
وكي يكونْ
وأنا بِرغمِ هشاشتي
وبِرغمِ أنّي كِدتُ أنهي
آخرَ الفصلِ الأخيرِ من الرِّوايةِ/
في تَمدُّدِيَ الأخيرِ/
أدقُّ – والمرقابَ –
نحوَ تسطُّحِ الأشياءِ، والأشكالِ
والأفكارِ...
قسراً دونَ غايةْ
وبرغمِ أنّي بعدَ حينٍ
حينَ يرتاحُ الطَّبيبُ لِقولِهِ
أنّي كسرتُ قيودَ قلبي/
أنّني أطلقتُ بردَ حقيقتي من نارِ سطوتِهِ
وأنّي لم يَعُد منّي سوى خطٍّ فجائيٍّ
تسطّح عنوةً... نحو البدايةْ
فأنا هو الناجي الوحيدُ
من انكسارِ الرُّوحِ عجزاً
مثلما للبحرِ جزرٌ، ثمّ مدٌّ.../
للمواويلِ انطلاقٌ لا يُحَدُّ
ولا يُصدُّ... ولا يُردُّ.../
وليسَ للتاريخِ أن ينفي
بأنّي كنتُ رغمَ غرورهِ
وبأنّني أرضعتُ نبضَ قصيدتي
للحبرِ، والليمونِ، والأمطارِ
أنّ القلبَ ضاقَ
بما يزيدُ عن الكراتِ الحمرِ والبيضاءِ
فانفجرت بهِ أشلاؤهُ
ليجيءَ بعدُ
أنا لم أكن عبثاً
وليست معظمُ الأشياءِ تُحسَبُ
بالتفاضُلِ والتَّكامُلِ وحدَهُ
لم أستعد شبراً
من الأرضِ التي تمتصُّني الآن اشتياقاً/
إنّما استرجعتُ نفسي من ضحايا اليأسِ
إنساناً تحدّى - سافراً – أبعادَهُ العرجاءَ
فجّرتُ اشتياقي راكضاً من عتمةِ المنسيِّ
نحوَ بريقِ موتٍ قادمٍ كالبرقِ
يصعقُ دهشتي من موتِها/
ولربّما يتسرّب اليأس السّريعُ
إلى طبيبٍ ملَّ منّي/
جرَّهُ الرُّوتينُ جرّاً كي يجرّبني
ويمنحني محاولةً
تبوءُ بعجزها قبلَ البدايةِ/
حينَ يأذنُ لي بأوّل صعقةٍ
أو صعقتينِ/
مردّداً في رأسهِ كلماتهِ المعتادةَ الصمّاءَ
بحثاً عن عزاءْ
ويديرُ عنّي وجهَهُ لكَ
راسماً ندماً شديداً حينَ يعلنكَ الحقيقةَ/
أنّني بعدَ انتظاري، لم أخيّب ظنّهُ
أو ظنّ من يبكونني منذُ ابتداءِ الفصلِ ما قبلَ الأخيرِ من الرّوايةِ/
يحتسونَ الشّايَ في "قهواتهمْ"
وتحيكُ نسوتُهم حصادَ الصُّوفِ في دفءِ الخريفِ لأجل ما يأتي/
ويتركُ في نهايةِ نشرةِ الأخبارِ لمستهُ
"البقيَّةُ في حياتكَ"!
ربّما لم يبقَ فيها ما تبقّى
لستُ سلطاناً لأترك في الظلامِ خليفةً
والقلبُ يحتكرُ الحقيقةَ في سكونِ الأنبياءْ
"هذا طريقُكَ"
- مثلما قالتْ ليَ امرأةٌ وغابت –
لم يكن هذا مصادفةً
ولا تكفي الدُّموعُ ولا الحنينُ
لكي نكونَ سويّةً/
لا شيءَ يأتي دونَ إذنٍ منكَ
أو دونَ التجاءْ
لا دمعَ يأتي دونَ قصدٍ بالبكاءْ
وطبيعةُ الأشياءِ كانت – منذُ كانتْ - رغبةً في سرّها/
للريحِ وجهتُها
وللتيّارِ سطوتُهُ
وللمنفى تجاهُلُهُ وقسوتُهُ
وأنتَ اليومَ أنتَ
بما أردتَ الأمسَ
تختارُ الحقيقةَ
والوسيلةَ
لونَ قلبِكَ
وانتصاراتِ الطّفولةِ
ربطةَ العنقِ المفضّلةَ
الحذاءَ... الوقتَ
والصّوتَ الحبيسَ بلا انتهاءْ
تختارُ أن تبقى
وأن تمضي
تفكِّرَ/ تنحني/ تبكي/ تقومَ
تعيشَ/ تبني/ تزدري/ تحيا/ تموتَ
تذيبَ قلبكَ في ترابِ الأرضِ
أو ترقى بهِ
اختر جنونكَ
واتركِ الأسماءَ للأسماءِ
والأشياءَ للأشياءِ
والتّاريخَ للتاريخِ
بعدَ الوقتِ وقتٌ
للطبيبِ لكي يسمّي ما يراهُ
وما يظنُّ
أكان عقلاً
أم جنوناً منكَ
أم فرطَ انتماءْ
"هذا طريقُكَ"
لن تكونَ "أنا"
ولستُ "أناكَ"
حتّى إن تقاسمنا الحقيقةَ، والنّهايةَ، والعناءْ
والأرضُ تجمعُنا، وتقسمنا
تفرّقنا، وتربطنا
وتتركُ في نهاياتِ القصائد غصّةً
لا تستعادُ ولا تعادُ
وفي نهاياتِ المواويلِ الحزينةِ آهةً
لا تقبل التقسيمَ بين اثنينِ في صدريهما
للأرضِ لونُ الذّكرياتِ
وطعمُ آخرِ قبلةٍ كانت لها
وحرارةٌ من شهوةِ الموتِ البطيءِ
كوردةٍ في صدرها
وملوحةُ الدمعِ الأخيرةُ للرّحيلْ
للأرضِ وقتٌ... كالنّبيذِ
لكي تعتّقها الأغاني، والأماني
وانتظارُ الياسمينِ يداً لتقطفَهُ
وخوفُ العاشقينَ من العيونِ
ورعشةُ الكفّينِ في شغفٍ
إذا امتدّا معاً من تحتِ طاولةِ الدّراسةِ
واحتضارُ الموتِ في شغبِ الفصولْ
كالطفلِ تكبرُ
حينَ نكبرُ
حين يرسمُنا التردُّدُ والتوجُّسُ/
وانتظارُ الموتِ حبَّاً بالحياةْ
تتغيّرُ الأسماءُ والأشكالُ والأوطانُ عبرَ الوقتِ/
إذ يمضي بنا دونَ انتباهْ
والأرضُ تنبتُ من جنانِ الرّوحِ
تشربُ من حكايانا/
إلى أن ينضجَ الحلمُ المعتّقُ في جرارِ العمرِ/
يأذنُ للتمنّي بالتأنّي
والتهامُسِ بالتَّلامُسِ
واقترافِ الشّوقِ والذّكرى على مهلٍ
كنسجِ قصيدةٍ في كلِّ بيتٍ
خلفَ وحيِ العنكبوتْ
هذا طريقُكَ
ها هو الوطنُ الذي ينتابُكَ
استسلم لهُ
واسمح لهُ للتوِّ أن يغتالَ صوتَكَ
أن يصبَّكَ
أن يُذيبَكَ
أن يُحيلَ رمادَ دفئِكَ وردةً
عطراً
هُطولاً
طفلةً تختالُ في فُستانِها
وحمامةً تطفو بفيضِ حنانِها وحنينِها
فوقَ البيوتْ
هذا هوَ الوطنُ الذي يغتالُكَ
استسلم لهُ
فلسوفَ يخرُجُ من سرابِ الحلمِ نحوَ دم الحقيقةِ
عبر روحكَ قادماً/
لم ترقَ بعدُ لذلكَ الموتِ الذي تحتاجُهُ
ما الفرقُ بينَ دمٍ يسيلُ وآخرٍ؟
ما الفرقُ بينَ رصاصةٍ ورصاصةٍ؟
هي لحظةٌ قد تُشتهى عن سبقِ إصرارٍ
وقد ترخي الستارَ على قرارٍ خاطئٍ/
في لحظةٍ من كبرياءٍ كاذبٍ
لا فرقَ يذكرُ/
حينَ تصبحُ جثّةً
بين ابتسامةِ واثقٍ أو رُعبِ من ضلّ الطريقَ عن الطّريقِ ولم يعد/
لكليهما نفسُ النّهايةِ
نفسُ عمقِ القبرِ
والطقسُ الوداعيُّ الحميمُ
ولم تعد تكفي البطولةُ كي تكونَ محارباً
فإرادةُ الموتِ اختبارٌ للتوحُّدِ
واختبارُ الصبرِ عمّا تشتهيهِ تقلُّباتُ النّفسِ منّا
فالحقيقةُ، والقصيدةُ، والولادةُ
لا تجيءُ كطعنةِ السكّينِ
والألمُ انتصارٌ للتكوّنِ فيكَ
كي تتعلّم المشيَ العسيرَ على الطّريقِ...
وكي تموتْ
والأرضُ تحيا
حينَ تعبرُ منكَ
حين تكفُّ عن تفسيرها بكَ/
واختلاقِ الجرحِ منكَ
فإنّ وجهكَ سوف يبلى
وهي باقيةٌ...
فلُذْ بالموتِ
واختصر المسافةَ بالسّكوتْ
للرعدِ أن يطوي المدى بهديرهِ
بعدَ انتفاضةِ برقهِ، لا قبلها
للكرمِ أن يحظى بلونِ نبيذهِ الأخّاذِ
بعدَ حصادهِ، لا قبلهُ
هي سنّةُ الأشياءِ
ندركُها أخيراً – معشرَ الموتى –
فحينَ يحلُّ فينا الموتُ ضيفاً كلَّ هذا الوقتِ
يجدرُ أن تعلّمنا التّجاربُ
أن تخلّصنا من الأسطورةِ الأولى
وتفتحَ أعينَ الباكينَ
أن نختارَ بينَ حقيقتينِ
وقِبلتينِ
وأن نرى في جثّةٍ فوقَ التّرابِ
طريقةً لعبورِ ذاكَ البابِ/
بين شعورنا، ووجودنا
بين التلذّذ بالحقيقةِ
والحقيقةِ ذاتها/
لا يستوي الموتى
ولا الأحياءُ
والمفتاحُ للإخفاقِ في سردِ الحكايةِ
رغبةٌ مجنونةٌ للقفزِ فوقَ الوقتِ
إذ تستلُّ ضعفكَ عالياً من غمدهِ
وتطيحُ بالباقي من الآمالِ في لهفٍ جنونيٍّ/
يثورُ الرّملُ بالفوضى/
يسيرُ الرّكبُ مشدوهاً/
ينادي اليائسونَ مليكهمْ/
يبكونَ/ ينتحبونَ/ يلتمسونَ/ يصطخبونَ
ينهمكونَ في صخبٍ سعيدٍ هادرٍ
يبنونَ عرشاً آخراً/
في حفرةٍ ليستُ تزيدُ عن الذي اعتدناهُ عمقاً
كي تصبَّ حرارةَ الفوزِ الذي أحرزتَهُ توّاً
وتعلنَ أنّ قلبكَ لم يزلْ متعلّقاً بالزيزفونِ/
وبالنّخيلِ
وسوفَ تدركُ لاحقاً
أن لم يكن أحدٌ سواكَ
وأنّ نظرتكَ الأخيرةَ خلفَ ظهركَ
ذكّرتكَ بفيلقٍ ممّن عفت آثارُهمْ
هي سنّةُ الأشياءِ
ندركُها أخيراً – معشرَ الموتى –
فحينَ تفكُّ في غلٍّ حذاءكَ
تاركاً في الفردةِ الأولى قليلاً من "أناكَ"
وكلَّ ما كدّستَهُ فيها من الإحباطِ
تلصقهُ بأوّلِ منفذٍ يبدو أمامكَ
تذرعُ التاريخَ في كلّ اتجاهاتِ التأمُّلِ
ثم تخلعُ بعدها الأخرى
تذكّر...
أنّ أبطالَ الحكايا منذُ بدءِ الكونِ
محكومونَ بالجزءِ الأخيرِ من الحكايةِ
حينَ تأتي القبلةُ العصماءُ
من شفتي أميرٍ ساحرٍ
عبَرَ الحكايةَ واثقاً
وطريقُهُ
أشلاءُ من صنعوا الحكايةَ في انتظارِ مجيئهِ
لا بدَّ من ثمنٍ لهذا الحزنِ
هذا اليأسِ
هذا الخوفِ/
والأمواجُ تعلو
كنتَ أنتَ هناكَ
ترتجلُ المسافةَ من مكانكَ
نحوَ أولى الأمنياتِ
فهل أمانينا بهذا القربِ حقاً؟
هل تَعبَّدَتِ الدّروبُ إلى الوجودِ؟/
ونحنُ...
هلّ كنّا هنالكَ؟/
أم وقفتَ هناكَ وحدكَ
ضارباً كابوسكَ الفرديّ بالنّعلِ المجرّدِ؟/
أم تجرّدتِ الحكايةُ من معانيها
وصرتَ اليومَ محضَ حكايةٍ/ أقصوصةٍ
خرجت عن النّصّ الذي يمتدُّ من قبلي وقبلِكَ
وانتهت بعد البدايةِ
ثمّ كانت فردةٌ أولى
وكانت فردةٌ أخرى
وكان مساؤنا الباقي
وكان صباحُنا المحمومُ بالتصفيقِ/
دونَ نتيجةٍ
والفارسُ المحكومُ - عفواً - باسمهِ
لم يبقَ "منتظِراً"
ولم يسمح لنا
بتأمُّل الشرخِ العميقِ على جدارِ الرّوحِ
غطّى جبهةَ الغدِ بالهُتافِ وبالتحيّاتِ الطويلةِ
والمدافعِ في الهواءِ الطّلقِ
واستعراضِ فرحتنا الشديدةِ بالخواءْ
أنا لستُ طيفاً لا إراديّ التحوّلِ
واحتمالاً بالغَ الفوضى/
أتيتُ لأزرعَ الزّيتونَ في صمتٍ
وأتركَ شتلةً أولى
فليس هناكَ من بطلٍ خرافيٍّ يحرّر دولةً
والموتُ ليس سوى انتقالٍ في الزّمانِ وفي المكانِ
نُعِدُّهُ منذُ الولادةِ
راسمينَ خريطةً كبرى
وليس نهايةً عبثيّةً للرّوحِ/
سطراً خارجاً عن منطقِ المألوفِ والمتوقّعِ الآتي
وإن تهنا طويلاً عن حقيقةِ كونهِ/
تتراكمُ الأسطورةُ الأولى
وفي عشرينَ جيلاً، تستحيلُ روايةً أخرى
وينتظر الجياعُ "الزّيرَ" في شغفِ الولادةِ
قادماً يغري برايتهِ مساراتِ التحوّلِ والخلاصِ
تغصُّ كلُّ شوارعِ المدنِ الصّغيرةِ بالصِّغارِ
يعانقونَ سيوفَهم خشبيّةَ التكوينِ
والحلمَ الوراثيّ البعيدَ
وفي غدٍ آتٍ...
نؤجّلُ (فارسَ الأحلامِ) جيلاً آخراً
ننسى الألوفَ من الجنودِ
وقد أعدّوا للتوحُّدِ بالتّرابِ
ولا يدورُ ببالهم تأجيلُ مقتلهم
ولا يتفقّدونَ مقاطعَ الأخبارِ كي يتأكّدوا من نصرهمْ
ستمرُّ فوقهمُ الحكايةُ
حينَ تختلطُ المعاركُ والتجاربُ
ثم يختصرُ الحقائقَ نصفُ سطرٍ
واسمُ شخصٍ واحدٍ تختارُهُ الأقدارُ فارسها
بلا سبب وجيهٍ/
كنتُ جنديّاً بسيطاً
واكتفيتُ بأن عبرتُ البابَ نحوَ قصيدتي
وخلعتُ "نَعلَيَّ" احتراماً/
للطيورِ وللزّهورِ وللعصافيرِ الشّريدةِ
والمصيرْ
أمضي
ولستُ أنا الأخيرْ
والآن
يبدأ برزخٌ بي
ينتهي بي برزخٌ
يأتي ويذهبُ كلُّ شيءٍ
غير أنّ هناك ما لا ينتهي/
الشّعرُ/ الحياةُ/ الحبُّ/
ليمونُ البراري
والولادةُ
والتشكُّلُ
والتجدُّدُ
واقتناصُ اللحظةِ الهوجاءِ
إحساساً، وعمقا
لستَ أنتَ
ولستُ نفسي
ليس هذا العمرُ إلا برزخاً
للموتِ عشقا
رغم أنفِ الموتِ نبقى
رغم أنفِ الحربِ نبقى
رغمَ أنفِ الكرهِ
نبقى
*
ليلة عيد الميلاد 2008