هاملت... وحصار الجدران - نائل الحريري

- 1 –
وذكرتُها . . .
فبكيتُ من ألمي
وضرَّجني الحنينْ . . .
موتٌ تخطَّفني. . .
و عانَقني . . .
و أرسلني بعيداً . . .
أزرقَ العينينِ
طفلاً . . .
أبيضَ الكفَّينِ
يلعبُ بالأفاعي و النِّساءْ . .
وذكرتُها . . .
كالشوكِ تدميهِ أكفُّ العاشقينْ
شوقاً . .
سرى منّي إليَّ
فلست أدري كيف جاءْ
عيناكِ . . .
يا ألقاً من الفيروزِ . . .
و الألمِ الدفينْ
عيناكِ . . .
يا جرحاً
تنزُّ دماؤهُ من مقلتَيهْ
الداء يطفِئني
و شوقُ النازحينْ
و دمي إلى دمهِ يحنُّ . . .
فأينَ منهُ دمي إليهْ
عيناكِ . . .
يا موتانِ من ماضي السنينْ . . .
موتٌ أباحَ دمي
و آخرُ شدَّني نحو السَّماءْ
عيناكِ . . .
يا عشرونَ ألفَ فمٍ يخاطبني :
(( أنا البازي المُدِلُّ عليكَ
فاقرأ باسم ربِّكَ ما تشاءْ ))
عيناكِ . .
يا موتانِ وسعَ الذُّلِّ
وسع الكبرياءْ
وسعَ السما والأرضِ
وسعَ عقولِنا
وسعَ الجنونْ . . .
عيناكِ . . .
يا ناراً تَوقَّدُ من دمي
لا عادت الأحجارُ تُشبِعُها . . .
و لا يغري لظاها الكافرونْ
عيناكِ . . .
يا أرجوحةَ العمرِ الحزينِ
ذكرتُها . . .
فبكيتُ من ألمي
بكيتُ . . .
و صار لي قلبٌ حنونْ
عيناكِ . . .
يا موتانِ من وهجٍ وصمتْ
موتانِ في أنْ لا أكونَ
و أن أكونْ ...
- 2 –
عشتارُ . . .
يا ألماً أعتّقهُ
فتشربه عيوني
سيلاً من الآمالِ . . .
و الأحلامِ . . .
و الألمِ الزلالْ
عشتارُ . . .
يا شيئاً بعيداً عن حدودِ الفكرِ
أو نسجِ الخيالْ
البرزخُ الفضيُّ من حولي
يحاصرني . . .
وتنبُذُني سمايْ
وتسيلُ أحزاني على الورقِ الصَّقيلِ . . .
على الصُّخورِ . . .
على الرِّمالْ. . .
عشتارُ . . .
تتركني وحيداً
أقرعُ الأجراسَ في صمتِ السؤالْ
و أخطُّ خارطةً لعشقٍ سرمديٍّ
من جديدْ . . .
عشتارُ . . .
قلبُكِ من حديدْ
و فؤاديَ المصلوبُ
ليسَ لديهِ ميدوسا*
تحيلُ رمادَهُ الظمآنَ مسخاً
من حجرْ . . .
ساءَ القدرْ . . .
ساءَ المصيرْ . . .
و الموتُ أهونُ من ترقُّبيَ المريرْ
ما بينَ أرضٍ لا تدورُ
و نورِ شمسٍ لا تنيرْ
مَلِكاً مُسجّى في السريرْ
يلتفُّ حولي الخائنونْ
لا فرقَ في أنْ لا أكونَ
و أن أكونْ ...
- 3 –
عشتارُ . . .
إني قد صنعتُكِ من هوايَ . . .
و من جنوني . . .
و اغتلتُ في عينيكِ أيامي
و أجملَ ذكرياتي
و صنعتُ شمساً منكِ
فاستلّت ضياها من عيوني
و دفعت دينَ الرّخ من كبدي* . . .
و من باقي حياتي . . .
عشتارُ . . .
كيف تكبَّر الإلهامُ
فوقَ المبدعينْ ؟!
أنسيتني . . .؟!
يا تحفةً . . .
لولاي ما كانتْ
سوى ماءٍ . . . و طينْ
- 4 –
جرحٌ عميقٌ أنت يا عشتارُ
فوق توقُّعاتي
جرحٌ عميقٌ . . .
عمقَ أحلامي
و عمقَ تصوُّراتي
جرحٌ عميقٌ صاغ كل قصائدي . . .
و دفاتري . . .
و مذكّراتي . . .
جرحٌ
يخطُّ المطلقَ المكسورَ
سطراً من حنينْ
خطأٌ طباعيٌّ حياتي
في كتاب العالمينْ
لا يملكُ المنبوذُ إلا عرشهُ المائيَّ
يلقيهِ على رملِ السنينْ
و قصيدةَ العشقِ المعتَّقِ بالهواجسِ
و احتضارِ الزيزفونْ :
موتانِ في أن لا أكونَ
و أن أكونْ ...
- 5 –
ما بين أحلامي و بيني . . .
ألف حبلٍ من رمادْ
و قوافلٌ ثكلى . . .
و صاعقةٌ بلونِ الياسمينْ
و الأرضُ نافذةُ السماءِ
يشقُّ ضحكتها الغمامْ
يبكي . . .
فيبكي من ورائي ألفُ عامْ
ما بينَ أحلامي و بيني
ألفُ عينٍ لا تنامْ
لا نورَ تشربهُ المدينةُ . . .
لا ظلامْ . . .
لا شيءَ . . .
إلا ما تبقَّى من دموعٍ لا تزالْ
وشماً على كتفِ المحالْ
أو صرخةً
ألقي بها
في بطنِ حوتْ
و الأرضُ
- نافذة السماءِ -
تطلُّ من وجعي مراياً
لا تموتْ
وضعَتْ على كتفي الحمامةُ بيضَها . . .
و على فمي نسج الشّباكَ العنكبوتْ
فأنا الحقيقةُ . . .
و الخيالُ . . .
أنا الضجيجُ . . .
أنا السكونْ . . .
و أنا المخيّرُ . . .
أن أكونَ مخيَّراً
أو لا أكونْ ...
- 6 –
أَوَ تعلمينَ الأرضُ كيفُ تصيرُ
حين الأرضُ تخضرُّ انتشاءْ
حين الدَّمُ المخضُّر يغزوها
فيصعدُ . . .
كالدموع إلى العيونْ
أَوَ تعلمين الموتُ ما معناهُ
حين يجنُّ في دمنا إلى الموتِ اشتهاءْ
يقتات من أحلامنا ...
كالروحِ يبكي ... في سكونْ
عشتارُ ...
أغرقُ في الدِّماءِ ...
و لا أزالْ
و تئنُّ من تحت القبورِ
جماجمُ الموتى
تُبرعمُ في متاهاتِ السؤالْ :
قد غادر الطوفانُ
لملمَ نفسَهُ . . .
و مضى إلى وطنٍ جديدْ
و بقيتَ تسحبُ نفسكَ
_ المصلوبَ _
نحو الجلجلةْ . . . !!
يا أيها المحظوظُ
أكرمْ جيدكَ القاني
بحبلٍ من مسدْ
والبس بقايا النَّعلِ ...
و اخلع عنكَ حدَّ المقصلةْ
قد أغرقَ الطوفانُ نبضَ الأرضِ
و الزَّمنَ الوليدْ
و أتى على الدُّنيا
بكفٍّ من حديدْ
و مضى . . .
إلى وطنٍ جديدْ
وبقيتَ وحدكَ . . .
تزرعُ الأرضَ اشتياقاً
و انْــتِـظارْ ؟!!!!
- 7 –
عشتارُ . . .
عاد يذيبُ أضلاعي الشتاءُ
فلا شتاءْ ...
إلا السوادُ يثورُ
يغلي في دمي ألفَيْ جديلةْ
و يلفني بالصمتِ من كلِّ الجهاتِ ضجيجهُ . . .
شمشونَ
مزّق شعرهُ . . .
و مضى يفتِّش عن دليلةْ
منفاهُ صرتُ
فمن يضمّدُ لي صهيلهْ ؟‍!
أو يخرس الجرحَ الذي ...
يحكي الحقيقةَ في عيون الكاذبينْ ؟!!
عشتارُ . . .
عدت إليكِ كي أبكي
فهل ألقى مكاناً للبكاءْ ؟!
أمْ أنَّ صدركِ
ليس إلا للسّكارى العاشقينْ ؟
عشتارُ…
حتى الأرضُ أمٌّ للحجرْ
و الغيمُ حين ينوحُ في ألمٍ
يلفُّ الزهرُ حبّاتِ المطرْ
عشتارُ . . .
ضمّيني . . .
فإني _ بعدُ _ ذاكَ الطفلُ
ينقصهُ الحنانْ ...
ضمّيهِ في عينيكِ
علَّ الموجَ يحملهُ إلى برِّ الأمانْ
عيناكِ ...
يا فجراً بألوان الربيعْ
يا آهةً تصْمي الفؤادَ
أزفّها للاّمكانْ . .
و أخبِّئُ الدمعَ الملوَّعَ
في العيونْ ...
* * * *
واللهُ يرضى
أن أكونَ ...
و أن أكونَ ...
وأن أكونْ ...
__________
* في الأساطير اليونانية القديمة ميدوسا مسخ يتحول كل من يرى عينيه إلى حجر .
* بروميثيوس الذي سرق الشمس من معبد الآلهة و أهداها للبشر ، عاقبته الآلهة بتعليقه بين جبلين يأكل الرخ كبده في كل يوم ... و في الصباح التالي ينبت له كبد جديد .