رسالة 2 - سيف الرحبي

عزيزتي:
البارحة أمطرت
بينما الناس نيام
خلسة تمطر، بعد أن تحوم السُحب المحتدمة
لأيام مشرئبة الأعناق والأطياف
لا تكاد تحدق فيها الأعين العطشى
إلا وتضمحل حافرةً أثرها الموحش، لتمطر
في أراض أخرى مخضّلة بنعمة المياه وبهاء
المواسم التي لا ينقطع فيضها.
السحب التي طال انتظارها ونُحرت من أجلها القرابين وأقيمت الصلوات في أعماق الأودية الممحلة.. حتى الأطفال والمسنون والأرامل هرعوا حاملين أكياس الطحين والقمح إلى المسجد الغارق بين فجاج صخريّة وعرة.
السحب التي منذ كنا صغاراً، لا نجرأ على النظر إليها، كيلا تتلاشى،
وتُبقى على الأمل البسيط للحقول والأفلاج
التي تتلوى وتئن كحشد من الجرحى والمصابين
في حرب عبثيّة.
أمطرت سريعة في ليل النيام، سرابها الماكر استدرج الجميع إلى شراكه وجعلهم يحلمون.
إنها الحياة، نراها في مرآة سحب عدميّة
تلعب بأحلام البشر..
* * *
اليمامة تعرف بحكم الخبرة، أن قدرة فعل الخير لدى البشر محدودة مع ذلك تطارد صيادها وتهدل بالهداية.
* * *
مضى الزمن الذي كان فيه الصِبية يتحلقون حول المدفأة وشفاههم ترتعش على لهب الحكايات.
لم تعد هنالك مدفأة. لم يعد برد ولا حكايات، لم يعد هنالك وادٍ مياهه تسيل مع الغروب، ذاهبة للمطلق. لم يعد الجن ولا الظلمة التي تتآمر اشباحها بعذوبة وفزّع. لم يعد ثمة صِبية. لم نعد نحن. لم يعد العالم.
* * *
مدن تحترق
وأخرى تحوم في سمائها الكواسر
* * *
خطر له، أن الزمن في خضمّه اللانهائي
هو ذلك المحيط المتلاطم، وليس البشر سوى حشرات حائرة محكوم عليها بالموت سلفاً، تجّدف في مستنقعاته اللزجة.
* * *
المرأة التي تستلقي على أديم المياه المتموج في البركة، ويدها إلى أعلى ملفوفة بضمادات نظيفة تجعلها أكثر إثارة وفتنة..
الجرح الظاهر، ربما يقود ويذكّر بوحدة الجرح الخبيئ في ظلامه الناسك الحنون.
الشهوة قرينة المأساة غالباً.
* * *
في الخلاء الذي تفيض وحشته وتشخب من كل ثقوب الفضاء المحيط.. القسوة في أعتى صورها وأكثرها اختناقا، تنزل المرأة ديمةً،، على الأرض التي هجرتها الرحمة ورمت بها إلى أقصى درك
في الجحيم.
نظل نحدق في وثن الجمال الفريد حتى الإغماء
* * *
افترقا في الحلم بعد عناق طويل لينتقلا الى الواقع.
تلك قصة الطرد الشهيرة للجد الأكبر وذريته التي مازالت تصارع أمواج التيه؟
* * *
صباح الثلاثاء.. الطقس مازال باردا جدا. استعيد اليوم الذي كنت فيه داخل كابينة التلفون حين راحت تعتم تدريجيا حتى تلاشت الحروف أمامي نهائيا ولذت من جنون الإعصار بأنفاق المترو.
أنزل إلى مطعم القطار، ثلاث جميلات أمامي مما جعلني أبطئ، إحداهن يابانية، خطر لي على الفور فيلم أوشيما (امبراطورية الحواس).
أنتظر مكالمة من خليل على ضوئها يتحدد موعد الطبيب اليوم أو غداً وأقرأ:
لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى
مزارُ ولكن الغضى ليس دانيا
* * *
لما رأى لـبدَ النسور تطايرت
رفع القوادم كالفقير المعدم
* * *
مشرق نهارك هذا اليوم وأنت تمضي الى مجهولك اليومي من غير أن تفكر في شيء حتى ولا محطة تصل إليها أقدامك..
الطرق تشبه بعضها حتى تخالها طريقا واحدا من غير نهاية، والأشجار أفرغت حمولتها الأخيرة من الدمع، ربما تذكرتْ أول مسافر مر عليها، أول طائر حط على غصنها عبر رحلته الطويلة.
* * *
البارحة، كان عيد الميلاد، جاءتني أكثر من دعوة لهذه المناسبة.. لم يعد عندي أي إحساس احتفالي بأي مناسبة جماعية مهما كان منبتها ومبررّها. ذهبت لأشاهد فيلم (الشعب المهاجر) تلك القصيدة السينمائية حول الطيور. سموات وأراض حالمة وكابوسيّه تجتازها الطيور المهاجرة
كم من قناص وحشي فتك بها. كم من عواصف وانهيارات ثلجية، من براكين وجوارح وصحاري هرمة ليس عليها أي نبات أو علامة حياة. كم من الجنان والمدن في رحلاتها الشاقة على مدى الأكوان.
هكذا من غير بيانات ولا كلام ولا إعلانات ولا كلمة شكر وامتنان من أحد.
* * *
لا يثق إلا بالوهم، بعد أن عزت عليه الحقائق وشفّت حتى تلاشيها بالكامل.
* * *
يفسحون الطريق لمزيد من الجنائز هذا اليوم.
* * *
عناق فريد بين شجرة اللبلاب والحائط، هي تسند هشاشتها على صلابته، وهو يسند صلابته على هشاشتها الغضة.
* * *
تفتح النسمة شرايينها للرعد
كي تتحول هي الأخرى إلى عاصفة هوجاء.
* * *
الشجرة العارية أمامي.
كم من الفصول مر عليها، كم من خريف
يسكن أحلامها في هذه اللحظة؟
* * *
أمحو أيامي كي أحييها على خارطة أوهام أخرى.
* * *
يخضج المطر في الخارج،
فتخضر الوحشة في أعماقي
* * *
ليس للغياب مكان بعينه، انه الأمكنة جميعها، المدن والقرى والدساكر، المحطات ومخدع الجنس السائل بلعاب اللذة الناقصة.
وهذا الصخب الذي يكتسح المدينة نهاية العام!
* * *
البحر يلفظ أعشابا وطحالب وقناديل ميتة، يلفظ جثثاً، وفاكهة متفسخة، البحر هذا المساء، يجدد نفسه يتطهر مما علق به من عفن الأزمان. ضرع الأرض الكبير المحتشد بالخير والجمال والشدة، يقذف أحجاراً بركانية مشعة..
الشناجيب تسرح مرحة بلون الذهب، والقمر يتزحلق فوق تلال السماء متعثرا
بأجسام الشُهب والكواكب السيارة.
مالك الحزين يرفع نخبه عاليا
لهذه الليلة القمرية المدهشة.