الشاعر - إيليا أبو ماضي

قالت وصفت لنا الرحيق و كوكبها
و صريعها و مديرها و العاصرا

و الحقل و الفلّاح فيه سائرا
عند المسا يرعى القطيع السائرا

ووقفت عند البحر يهدر موجه
فرجعت بالألفاظ بحرا هادرا

صوّرت في القرطاس حتى الخاطرا
فخلبتنا و سحرت حتى الساحرا

و أريتنا في كلّ قفر روضة
و أريتنا في كلّ روض طائرا

لكن إذا سأل امروء عنك امرءا
أبصرت محتارا يخاطب حائرا

من أنت يا هذا ؟ فقلت لها : أنا
كالكهرباء أرى خفيّا ظاهرا

قالت : لعمرك زدت نفسي ضلّة
ما كان ضرّك لو وصفت الشاعرا ؟

...

فأجبتها : هو من يسئل نفسه
عن نفسه في صبحه و مسائه

و العين سرّ سهادها و رقادها
و القلب سرّ قنوطه و رجائه

فيحار بين مجيئه و ذهابه
و يحار بين أمامه وورائه

و يرى أفول النجم قبل أفوله
و يرى فناء الشيء قبل فنائه

و يسير في الرّوض الأغنّ فلا ترى
عيناه غير الشوك في أرجائه

إن نام لم ترقد هواجس روحه
و إذا استفاق رأيته كالتائه

ما إن يبالي ضحكنا و بكاءنا
و يخيفنا في ضحكه و بكائه

كالنار يلتهم العواطف عقله
فيميتها و يموت في صحرائه

...

قالت : أتعرف من وصفت ؟ فقلت : من ؟
قالت : وصفت الفيلسوف الكافرا

يا شاعر الدنيا و فيك حصافة
ما كان ضرّك لو وصفت الشاعرا ؟

...

فقلت : هو امروء يهوى العقارا
كما يهوى مغازلة العذارى

إذا فرغت من الرّاح الدنان
توهّم أتنّما فرغ الزّمان

يعاقرها على ضوء الدّراري
فإن غربت ، على ضوء النّهار

و يحسب مهرجان النّاس مأتم
بلا خمر ، و جنّتهم جهنّم

ملول لا يدوم على ولاء
و لكن لا يدوم على عداء

أخو لبّ و لكن لا إرادة
وذو زهد و لكن بالزهاده

يميل إلى الدّعابة و المزاح
و لو بين الأسنّة و الصّفاح

و يوشك أن يقهقه في الجنازة
و يرقص كالعواصف في المفازه

إذا بصرت به عين الأديب
فقد وقعت على رجل مريب

يعنّفه الصّحاب فلا ينيب
و يزجره المشيب فلا يتوب

فقالت : جئت بالكم البديع
و لكن ما وصفت سوى " الخليع "

...

و خفت إعراضها عنّي فقلت : إذن
هو الذي أبدا يبكي من الزمن

كأنّما ليس في الدنيا سواه فتى
معرّض لخطوب الدّهر و المحن

يشكو السّقام و ما في جسمه مرض
و السّهد و هو قريب العهد بالوسن

و الهجر ، و هو بمرأى من أحبّته
و الأسر ، و هو طليق الروح و البدن

و لا يرى حسنا في الأرض يألفه
أو يشتهيه و كم في الأرض من حسن

ينوح في الرّوض و الأشجار مورقه
كما ينوح على الأطلال و الدمن

فقاطعتني : و قالت : قد بعدت بنا
ما ذي الصفات الشاعر الفطن

...

قلت : مهلا إذا ضللت و عذرا
ربّما أخطأ الحكيم و ضلّا

هو من ترسم الجمال يداه
فنراه في الطرس أشهى و أحلى

لوذعيّ الفؤاد يلعب بالأل
باب لعبا إن شاء أن يتسلى

و يرينا ما ليس يبقى سيبقى
و يرينا ما ليس يبلى سبيلي

يطبع الشّهب للأنام نقودا
و هو يشكو الإملاق كيف تولّى

أفما ذا من تبتغين و أبغي
و صفه ؟ قالت المليحة : كلا ! ..

...

يا هذه إنّي عييت بوصفه
و عجزت عن إدراك مكنوناته

لا تستطيع الخمر سر صفاتها
و الروض وصف زهوره و بناته

هو من نراه سائرا فوق الثرى
و كأنّ فوق فؤاده خطواته

إن ناح فالأرواح في عبراته
و إذا شذا فالحبّ في نغماته

يبكي مع النائي على أوطانه
و يشارك المحزون في عبراته

و تغيّر الأيام قلب فتاته
و يظلّ ذا كلف بقلب فتاته

هو من يعيش لغيره و يظنّه
من ليس يفهمه يعيش لذاته !!!