الدمعة الخرساء - إيليا أبو ماضي

سمعت عويل النائحات عشية
في الحيّ يبتعث الأسى و يثير

يبكين في جنح الظلام صبيّة
إنّ البكاء على الشباب مرير

فتجهّمت و تلفّتت مرتاعة
كالظبي أيقن أنّه مأسور

و تحيّرت في مقلتيها دمعة
خرساء لا تهمي و ليس تغور

فكأنّها بطل تكنّفه العدى
بسيوفهم و حسامه مكسور

و جمت ، فأمسى كلّ شيء واجما
ألنور ، و الأظلال ، و الديجور

ألكون أجمع ذاهل لذهولها
حتى كأنّ الأرض ليس تدور

لا شيء ممّا حولنا و أمامنا
حسن لديها و الجمال كثير

سكت الغدير كأنّما التحف الثرى
وسها النسيم كأنّه مذعور

و كأنّما الفلك المنوّر بلقع
و الأنجم الزهراء فيه قبور

كانت تمازحني و تضحك فانتهى
دور المزاح فضحكها تفكير

...

قالت وقد سلخ ابتسامتها الأسى :
صدق الذي قال الحياة غرور

أكذا نموت و تنقضي أحلامنا
في لحظة ، و إلى التراب نصير ؟

و تموج ديدان الثرى في أكبد
كانت تموج بها المنى و تمور

خير إذن منّا الألى لم يولدوا
و من الأنام جلامد و صخور

و من العيون مكاحل و مراود
و من الشفاه مساحيق و ذرور

و من القلوب الخافقات صبابة
قصب لوقع الريح فيه صفير !

...

و توقّفت فشعرت بعد حديثها
أن الوجود مشوّش مبتور

ألصيف ينفث حرّه من حولنا
و أنا أحسّ كأنّني مقرور

ساقت إلى قلبي الشكوك فنغّصت
ليلي ، و ليس مع الشكوك سرور

و خشيت أن يغدو مع الرّيب الهوى
كالرسم لا عطر و فيه زهور

و كدميه المثّال حسن رائع
ملء العيون و ليس ثمّ شعور

فأجبتها : لتكن لديدان الثرى
أجسامنا إنّ الجسوم قشور

لا تجزعي فالموت ليس يضيرنا
فلنا إياب بعده و نشور

إنّا سنبقى بعد أن يمضي الورى
و يزول هذا العالم المنظور

فالحب نور خالد متجدد
لا ينطوي إلاّ ليسطع نور

و بنو الهوى أحلامهم ورؤاهم
لا أعين و مراشف و نحور

فإذا طوتنا الأرض عن أزهارها
و خلا الدجى منّا و فيه بدور

فسترجعين خميلة معطارة
أنا في ذراها بلبل مسحور

يشدو لها و يطير في جنباتها
فتهشّ إذ يشدو و حين يطير

أو جدولا مترقرقا مترنّما
أنا فيه موج ضاحك و خرير

أو ترجعين فراشة خطّارة
أنا في جناحيها الضحى الموشور

أو نسمة أنا همسها و حفيفها
أبدا تطوّف في الذرى و تدور

تغشى الخمائل في الصباح بليلة
و تؤوب حين تؤوب و هي عبير

أو نلتقي عند الكثيب ، على رضى
و قناعة ، صفصافة و غدير

تمتدّ فيه و في ثراه عروقها
و يسيل تحت فروعها و يسير

و يغوص فيه خيالها فيلفه
و يشفّ فهو المنطوي المنشور

يأوي إذا اشتدّ الهجير إليهما
ألناسكان : الظبي و العصفور

لهما سكينتها ووارف ظلّها
و الماء إن عطشا لديه وفير

أعجوبتان – زبرجد متهدل
نام تدفّق تحته البلّور

لا الصبح بينهما يحول و لا الدجى
فكلاهما بكليهما مغمور

تتعاقب الأيّام و هي نضيره
مخضرّة الأوراق ، و هو نمير

فالدهر أجمعه لديهما غبطة
فالدهر أجمعه لديها حبور

...

فتبسّمت و بدا الرضى في وجهها
إذ راقها التمثيل و الصوير

عالجتها بالوهم فهي قريرة
و لكم أفاد الموجع التخدير

ثمّ افترقنا ضاحكين إلى غد
و الشهب تهمس فوقنا و تشير

هي كالمسافر آب بعد مشقّة
و أنا كأنّي قائد منصور

لكنّني لمّا أويت لمضجعي
خشن الفراش عليّ و هو وثير

و إذا سراجي قد وهت و تلجلجت
أنفاسه فكأنّه المصدور

و أجلت طرفي في الكتاب فلاح لي
كالرسم مطموسا و فيه سطور

و شربت بنت الكرم أحسب راحتي
فيها : فطاش الظنّ و التقدير

فكأنّني فلك وهت أمراسها
و البحر يطغى حولها و يثور

سلب الفؤاد رواه و الجفن الكرى
همّ عرا ، فكلاهما موتور

حامت على روحي الشكوك كأنّها
و كأنّهن فريسة و صقور

و لقد لجأت إلى الرجاء فعقّني
أما الخيال فخائب مدحور

يا ليل أين النور ؟ إنّي تائه
مر ينبثق ، أم ليس عندك نور ؟

...

" أكذا نموت و تنقضي أحلامنا
في لحظة و إلى التراب نصير ؟ "

" خير إذن منّا الألى لم يولدوا
و من الأنام جنادل و صخور "