يا جارتي - إيليا أبو ماضي

قالت لجارتها يوما تسائلها
عنّي ، و في طرفها الوسنان أشجان

ما بال الفتى في الدّار معتزلا
كما توحّد نسّاك و رهبان

يأتي المساء عليه و هو مكتئب
و يرجع اللّيل عنه و هو حيران

يمرّ بالقرب منّا لا يكلّمنا
و للحديث مجال ، و هو ملسان

و إن نكلّمه لا يفقه مقالتنا
إلاّ كما يفقه التّسبيح سكران

إذا تبسّم ، لا تبدو نواجده
و إن بكى ، فله نزع و إرنان

كأنّما كلّ عضو فيه بركان

فلا ابتسام ذوات الغنج يطربه
و لا ابنه الحان تصيبه و لا الحان

أماله أمل حلو يلذّ به
كما تلذّ بمرأى النّور أجفان

أماله جيرة في الأرض يألفهم
يا جارتي ، كان لي أهل و جيران

فنبّت الحرب ما بيني و بينهم
كما تقطّع أمراس و خيطان

فاليوم كلّ الذي في مهجتي ألم
و كلّ ما حولهم بؤس و أحزان

و كان لي أمل إذا كان لي وطن
فيه لنفسي لبانات و خلّان

فجرّدته اللّيالي من محاسنه
كما يعرّى من الأشجار بستان

فلا المغاني التي أشتاق رؤيتها
تلك المغاني ، و لا السّكان سكّان

لو المروءة تدري أيّ فاجعة
بالشام ، ناح عليها الإنس و الجان

و لو يبثّ بنو لوعتهم
لاهتزّت الأرض لمّا اهتزّ لبنان

قالت : شكوت الذي بالخلق كلّهم
و ما كذبتك إنّ الحرب طوفان

تساوت الناس في البلوى ، فقلت لها
هيهات ، ما هان قوم مثلما هانوا

أمن يموت و لا ستر يظلّله
كمن عليه أكاليل و تيجان ؟

قالت ، و يا ويح نفسي من مقالتها
كفكف دموعك ، بعض الحزن أهوان

لو كان قومك أهلا للحياة لما
ماتوا و في أرضهم ترك و ألمان

و كلّ من لا يرى في الذّلّ منقصة
لا يستحقّ بأن يبكيه إنسان

كفّي ملامك يا حسناء و اتّئدي
فإنّ مدح ذوي العدوان عدوان

و أنت من أمّة تأبى خلائقها
أن يقتل الطّير في الأقفاص سجّان

و إنّ قومي طيور غير كاسرة
سطت عليها شواهين و عقبان

لا تحسبي أنّني أبكي لمصرعهم
فكلّنا للرّدى شيب و شبّان

لكن بكيت من الباغي يعذّبهم
و هم شيوخ و أطفال و نسوان

ورحت أشكو إليها و هي ساهية
لكنّما قلبها الخفّاق يقظان

حتّى انتهيت فصاحت و هي مجهشة
يا ليت ما قلته زور و بهتان

بل ليتني لم أسائل عنه جارتنا
بل ليت قلبي إذ ساءلت صوّان

ياليت شعري و هذي الحرب قائمة
هل تنجلي و لنا في الشّام إخوان ؟

و هل تعود إلى لبنان بهجته
و هل أعود و في لبنان نيسان ؟

فأسمع الطير تشدو في خمائله
و أبصر الحقل فيه الشّيخ و البان ؟

بني بلادي ، و لا أدعو بخيلكم
غير البخيل له قلب ووجدان

بني بلادي ، و لا أدعو جبانكم
ما للجبان و لا لي فيه إيمان

بني بلادي ، و كم أدعو ...! أليس لكم
كسائر الخلق أكباد و آذان ؟

لا تضحكوا و بأرض الشّام نائحة
و لا تناموا و في لبنان سهران !