بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ - الياس أبو شبكة

بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ
فَوقَ حَصباءِ شاطىءٍ لازوردي

تَحتَ أُفقٍ كَالخَدِّ أَو كَالفَرَندِ
أَملَسٍ عَطَّرتَه نَفحَةُ رَندِ

فَسَرى الطَيبُ في الفَضاءِ زَكِيّا

كانَ داودُ دائِماً يَتَرَدَّد
وَعلى صَخرَةٍ يُهَيِّىءُ مُقعَد

فَإِذا مالَتِ الغُصونُ تَنهَّد
وَاِنجَلى عَنهُ حُزنُهُ وَتَبَدَّد

وَتَناسى عَهد الشَقاءِ القَصيّا

كانَ حلوَ الحَديثِ عَذبَ الطِباعِ
شاعِراً مُصغِياً لكلِّ التِياعِ

إِن رَأى أَدمُعاً بَكَت لِدَواعِ
ذَرفَ الدَمعَ من عُيونِ اليراعِ

راسِماً مَشهَدَ الحَياةِ شَقِيّا

كُلَّما كانَ جالِساً يَتَأَمَّل
في السَواقي ذاتِ الزَلالِ المسلسل

كَيفَ تَجري بِدون أَن تَتَمَهَّل
ثُمَّ تَنصَبُّ جَدولاً إِثرَ جَدوَل

بَينَ وَردِ الرُبى فَيَنمو نَدِيّا

كانَ يَمضي أَمامَهُ اِمرَأَتانِ
كَرُخامِ القُبورِ صامِتَتانِ

تَنظُرانِ الرَبيعَ بَعضَ ثَوانِ
وَوَراءَ الأَدغالِ تَختَفِيانِ

كَخَيالينِ من سعادٍ وَمَيّا

كَهلَةٌ قَد تُناهِزُ الخَمسينا
وَفَتاةٌ لا تَبلغُ العِشرينا

حَمَلَت في الضُلوع داءً دَفينا
فَهيَ تَسلو الآلامَ حيناً وَحينا

تُبصِرُ المَوتَ دانِياً يتهَيّا

مُقلَتَاها ما عادَتا مُقلَتَيها
فَهما مَيتَتانِ في جَفنَيها

وَيَداها في الداءِ غَيرُ يَدَيها
أَيُّها السِلُّ لِم جَنَيتَ عَلَيها

أَوَلا تَرحَم الفُؤادَ الفَتِيّا

بَعدَ شَهرٍ كَأَنَّما هُوَ عامٌ
نَسَجَت فيهِ بُردَها الآلامُ

شاءَ داودُ أَن يَكونَ سَلامٌ
وَاِبتِسامٌ ما بَينَهُم وَكَلامُ

وَحَديثٌ عَن الفَتاةِ فَحَيّا

وَدَرى بَعدَ ذاكَ أَنَّ أَباها
ماتَ بِالداءِ نَفسِهِ وَأَخاها

فَبَكى راثِياً جَمالَ صِباها
وَاِبتِساماً مُوَدِّعاً في لماها

وَشَباباً يَموتُ شَيئاً فَشَيّا

أُمها وَهيَ أَثكَلُ الأُمَّهاتِ
بَعدَ تِلكَ المَشاهِدِ الماضِياتِ

لَم تَكُن تَستَطيعُ بِالبَسماتِ
رَدعَ مَصدورَة عَن الحَسَراتِ

فَاِبتِسامُ الحَزينِ كانَ عَصيّا

طالَما ذِكرَياتُ تِلكَ المَشاهِد
عاوَدَتها وَاللَيلُ سَكرانُ ساهِد

يَومَ كانَت تَبكي أَمامَ الوسائِد
حيثُ ماتَ الوَليدُ بَعد الوالِد

تارِكينَ الداءَ المُخيفَ الخَفِيّا

ربِّ قالَت يا رَبَّ هذا الوُجودِ
وَرَجاءَ الشَقِيِّ وَالمَنكودِ

قَد كَفاني في شَقوَتي وَجُهودي
موتُ زَوجي الفَتى وَمَوتُ وَحيدي

فَاِشفِ بِنتي وَكن شَفيقاً عَلِيّا

ذاتُ حُسنٍ كَالفَجرِ في نيسانِ
لامَسَتهُ أَنامِلُ الأَحزانِ

وَبياضٍ كَالثَلجِ في لُبنانِ
وَحَديثٍ يُذيبُ في الآذانِ

نَغَماً لِلحَياةِ موسيقِيّا

مُقلَتاها رَمزُ الفُؤادِ الوَجيعِ
وَلماها اِستَعارَ لَونَ الشُموعِ

هكَذا هِندُ وَهيَ بِنتَ الدموعِ
كانَ يَبدو شبابُها في الرَبيعِ

إِنَّ قَلبَ الرَبيعِ كانَ عَتِيّا

ذاتَ يَومٍ وَقَد تَدانى الغِيابُ
جَلَست هِندُ في يَدَيها كِتابُ

قَرَأَت فَترَةً وَجاءَ الضَبابُ
فَمَضى فيهِ جِفنُها المُرتابُ

تارَةً ساهِياً وَطوراً بكيّا

هِندُ لِم أَنت تَنظُرينَ الضَبابا
بِعُيونٍ ذابَت وَقَلبٍ ذابا

أَفهذي رؤىً تُريكِ الشَبابا
يَتَلاشى وَيَستَحيل ترابا

قَبلَ أَن يَبلُغَ الحَياةَ قَوِيّا

جاءَ هنداً داودُ بَعدَ الظُهورِ
فَرَآها وَالأُمَّ بَينَ الزهورِ

في يَدَيها قُماشَةٌ من حَريرِ
طَرَّزَت بَعضَها بِفَنِّ خَبيرِ

فَبدا الفَنُ في يَدَي هِندَ حَيّا

قالَ هذي لِمَن بِبَعضِ اِبتِسامٍ
إِنَّها مثلُ برنسٍ لِغلامِ

فَأَجابَت بِزَفرَةِ الآلامِ
لِفَتاةٍ تَزَوَّجت مُنذُ عامِ

فَهَنيئاً لَها الزَواج هَنيّا

فَأَتاها عِندَ الضُحى فَرَآها
وَكتابٌ يَهتَزُّ في يَمناها

فَإِذا عَينُها تُعيرُ اِنتِباها
صَفحَةً ودَّ لَو يعي فَحواها

وَقَفَت عِندَها الفَتاةُ مَلِيّا

فَمَضى خَلفَ ظَهرِها بِتَأَنِّ
فَرَآها تَتلو بِبَأسٍ وَحُزنِ

بيتَ شعرٍ قَد قالَهُ مُنذُ قرنِ
شاعِرٌ وَهو يا أَبي لا تُمِتني

قَبلَ أَن أَعرفَ الهَوى العُذريّا

أَبصَرت هِندُ وَهيَ تَفكُر بِالغَد
مِن خِلالِ الأَحلامِ قَبراً أَسوَد

رَقَدَت فيهِ غادَةٌ ما تَنَهَّد
صَدرُها في الحَياةِ حَتّى توسَّد

تُربَةً ضَمَّت الظَلامَ الدَجِيّا

وَتَراءَت لَها عَروسُ القَبرِ
تَنحَني فَوقَ وَجهِها المصفِّر

في يَدَيها باقاتُ وَردٍ وَزَهرِ
نُثِرَت فَوقَ رَأسِها وَالصَدرِ

وَأَفاحَت أَريجَها العطريّا

وَتَراءَت لَها البَناتُ العَذارى
راقِصاتٍ بِحُبِّهِنَّ سكارى

يَتَبارَينَ ما الشَبابُ تَبارى
بِجَمالٍ يُهَيِّجُ الأَوتارا

في يَدَي عازِفٍ جَميلِ المُحَيّا

وَفَتىً ناظِرٌ بِعَطفٍ إِلَيها
رابَه السَقمُ في كلا خَدَّيها

خائِفٌ من دمٍ على شَفَتَيها
قاءَهُ ما جَنى عَلى رِئَتَيها

وَسُعالٌ بِهِ الرَدى يَتَقَيّا

وَتَراءى لَها خَيالٌ مُخيفُ
بَينَ أَهدابِ مُقلَتَيها يَطوفُ

في يَدَيهِ مَشاعِلٌ وَسُجوفُ
مُثَّلَت دَورَها عَلَيها الصُروفُ

فَتَراءى لَها الرَدى عَلَنِيّا

وَاِستَفاقَت لَدى اِرتِعاشٍ عَنيفٍ
دَبَّهُ الخَوفُ في صِباها الضَعيفِ

فَتَلاشَت كَالحُلمِ رُؤيا الطُيوفِ
وَتَوارَت أَمامَ دَمعٍ ذَريفِ

كانَ سِحراً في عَينَيها بابِليّا

ربِّ قالَت أَلَم تَهِبني المُيولا
وَحَديثاً عَذباً وَوَجهاً جَميلا

فَلِماذا أِرى الشَبابَ بَخيلا
لا يرى وَجنَتَيَّ حَتّى يَميلا

عَن جَمالٍ يَذوبُ في وُجنَتَيّا

يا إِلهي أَلَستُ يَوماً أُلاقي
عاشِقاً بَينَ مَعشَرِ العُشّاقِ

راحِماً في فُؤادي المُشتاقِ
غَيرَ دَمعٍ يَجولُ في آماقي

وَعَذاب يُضيءُ في مُقلَتَيّا

يا اِبنَةَ الدّاءِ يا اِبنَةَ الأَرماسِ
يا خَيالاً يَسيرُ في دَيماسِ

إِقتَصِد ما اِستَطَعتَ في الأَنفاسِ
إِنَّ رَسمَ الآلامِ وَالأَوجاسِ

عَن قَريبٍ سَيمَّحي سريّا

أَنتَ لَم تَدرِ كَيفَ شَيئاً فَشَيّا
يقضمُ المَوتُ جِسمَكَ الملكيّا

يا مَلاكاً أَضَلَّكَ الدَهرُ غَيّا
في زَمانٍ ما كانَ قَطُّ وَفِيّا

فَاِحيَ فينا وَلا تَكن مَنسِيّا

سَوفَ تَمضي إِلى دِيار البَقاءِ
بَعد تِلكَ الأَسقامِ وَالأَدواءِ

طاهِراً كَالزنابِقِ البَيضاءِ
حامِلاً مشعَلَ الأَسى وَالبُكاءِ

في فُؤادٍ قَضى الحَياةَ نقيّا

سَوفَ يُغمى عَلَيكَ في ذا الوُجودِ
بَعدَ حينٍ إِغماءَ روحِ الوُرودِ

تاركاً في فُؤاد كُلِّ وَدودِ
راءَ في وَجهِك اِصفرارَ الخدودِ

ذِكرياتٍ شَفّافَةً كَالحَميّا

قالَ داودُ ذاتَ يَومٍ لِنَفسِه
وَهوَ يَجلو بِالفِكرِ غامضَ درسِه

أَيَّ فَضلٍ يُبقي الفَتى بَعدَ رَمسه
إِن أَبى رَحمَةَ التَعيسِ بِتَعسِه

وَاِنعِطافاً عَلى الشَقيِّ سَخيّا

لَيسَ أَنقى من زَهرَةِ الأَحسانِ
فَوقَ صَدرِ المَجاهِد المُتَفاني

إِن أَكُن زَوجَ غادَةِ الأَحزانِ
أَفَلَيسَ الإنسانُ لِلإِنسانِ

أَفَما كُنتُ في الحَياةِ وَفِيّا

سَوفَ تَحيا بِالحُبِّ تِلكَ الفَتاةُ
هكَذا قَد أَرادَتِ التَضحِياتُ

فَليُضيء بَينَ مُقلَتَيها المَماتُ
فَالمَنايا عِندَ الهَوى هَيِّناتُ

فَلتَذُق ذلِكَ الهَوى الكَوثَريّا

وَمَضى الشاعِرُ الطَويلُ الأَناةِ
باسِطاً أَمرَهُ لِأُمِّ الفَتاةِ

قائِلاً إِنَّ مُهجَتي وَحَياتي
وَجهادي وَكلّ أُمنِيّاتي

تَتَمَنّى لِهِندَ عَيشاً رَخِيّا

سَوفَ تَحيا هِندُ السِنين الطِوالا
لَيسَ داءُ الفَتاةِ داءً عضالا

فَثِقي بي وَأَنعِشي الآمالا
أَنا مِثرٍ فَلَستُ أَطلُبُ مالا

بَل جمالاً عَذباً وَخُلقاً أَبِيّا

سَوفَ تَشفى مِن دائِها بَعدَ عامِ
سَوفَ نَحيا بِغَبطَةٍ وَسَلامِ

وَثِقي أَنَّ هِندَ ذاتَ السقامِ
سَتَراني أَخاً مَعَ الأَيّامِ

لا عَشيقاً لِجسمِها وَحشِيّا

فَبَكَت أُمُّها لِهذا الكَلام
بِعيونٍ تشعُّ بِالأَحلامِ

وَلدُن أَيقَنَت بِصِدقِ المَرامِ
شَكَرَتهُ بِمَدمَعٍ بَسّامِ

كانَ بِالحُزنِ وَالنُواحِ حَريّا

هِندُ إِنّي أَهواكِ أَهوى جَمالا
يَرشِقُ الحُبُّ مِن لماكِ نبالا

قالَ هذا وَقد رَأى الآمالا
راسِماتٍ في مُقلَتَيها خَيالا

طاهِراً في جَمالِهِ ملكِيّا

فَأَجابَت وَقد عَراها السُكوتُ
بَعضَ حينٍ كَأَنَّهُ هاروتُ

كَيفَ تَهوى أَلا تَراني عييتُ
مُقلَتي تَنطَفي وَقَلبي يَموتُ

وَيَجولُ التُرابُ في خديّا

قالَ لا بَل تَحيَينَ عُمراً طروبا
وَتَرَينَ الحَياةَ عيشاً خصيبا

فَأَنا عاقِلٌ سَأَلتُ الطَبيبا
قالَ لي هِندُ سَوفَ تَشفى قَريبا

وَتَرى لَونَ خَدِّها الوَردِيّا

مرَّ بِالعاشِقينِ أُسبوعانِ
هَيَّئا فيهِما جِهازَ القرانِ

وَالرَبيعُ الجَميلُ في نيسانِ
كانَ يَزهو بِالفُلِّ وَالريحانِ

ساكِباً ذلِكَ النَدى اللُؤلُؤيّا

بِحَريرٍ مُزَركَشٍ وَمُخَرَّم
وَطِرازٍ عَلى النَوافِدِ مُعلم

هكَذا غُرفَةُ الزَفافِ الأَقتَم
بَرَزَت وَهيَ تَستعدُّ لِمَأتم

بِجَمالِ العرسِ الرَهيبِ تزيّا

وَسَريرٍ أُعدَّ فيها صَغير
أُلقِيَت فَوقَه سُتورُ الحَريرِ

لَعبت أَنملُ النَسيم الطهورِ
بِجَنايا رِدائِه المَنشورِ

فَاِستَطارَ الرِداءُ نَشراً وَطيّا

وَهنا بَعدَ عرسِها الملكيِّ
ظَهَرت هِندُ كَالصَباحِ البَهِيِّ

بِنَقاءٍ ككلِّ قَلبٍ نَقِيِّ
وَبَياضٍ كَثَوبِها الزَنبَقيِّ

وَدَلالٍ يَفوح طهراً وَريّا

ما لِتِلكَ الفراشَةِ السَوداءِ
تَتَغَنّى في الغُرفَةِ البَيضاءِ

جَنحُها حالكٌ كَقطعِ الرجاءِ
وَغناها الرَهيبُ رَمزُ البُكاءِ

خالهُ المُبتَلي غناءً شَجِيّا

ذاتَ يَومٍ وَقد تَدانى الظَلامُ
خَفَقَت في ضُلوعِها الآلامُ

فَتَرامَت وَقد تَراءى الحمامُ
مُستَفيضاً في عينها لا يَنامُ

يَنتَحي عالَمَ الدُجى الأَبدِيّا

وَاِستَفاقَت قَبلَ المَماتِ الرَهيبِ
فَرَأَت زَوجَها كَثيرَ الشحوبِ

يا حَبيبي قالَت لهُ يا حَبيبي
حانَ مَوتي وَجاءَ وَقتُ مَغيبي

فَعَذابي يثورُ في رئَتيّا

غَيرَ أَنّي أَمضي لِدارِ البقاءِ
بِسُرورٍ وَغِبطَةٍ وَصَفاءِ

فَأَنا رُغمَ عِلَّتي وَبَلائي
ذُقتُ طعمَ الهَوى كَباقي النِساءِ

وَعَرَفتُ التَآلفَ الذهبِيّا

وَاِرتَمى رَأسُها اِرتِماءَ يَدَيها
وَتلاشى اللهاثُ في مُرشَفَيها

فَبَدَت وَالدماءُ في شَفَتَيها
مِثلَ شاةٍ بَيضاء أَلقى عَلَيها

شِرسُ القَلبِ سهمَه الدموَيّا

أَيُّ ذَنبٍ جنَته تِلكَ الصبيّه
ليجازى شَبابُها بِالمنِيَّه

ربِّ إِن كانَ أَصلُ تِلكَ الضَحِيَّه
والدٌ أَورَثَ السُمومَ الخَفِيَّه

فَصباها لَم يَأتِ أَمراً فَريّا

ربِّ لِم أَنتَ تظلمُ الأَبرِياءَ
وَتَزيدُ العاني الشَقِيَّ شَقاءَ

هُم يَقولونَ هكَذا اللَهَ شاءَ
فَاِحتَرَم فيهِ حكمَةً عَلياءَ

وَاِحبُهُ الشُكرَ بِكرَةً وَعَشِيّا