قُلتُ لمّا طيبُ عَيشي هربا - رشيد أيوب

قُلتُ لمّا طيبُ عَيشي هربا
واختَفَى في ما ورَاءَ القمَرِ

إنّهَا دُنيَا تُريك العَجبَا
لَيتني فِيهَا عَديمُ النّظرِ

لَيتَني أضرِبُ آلاتِ الطّرَب
فَأُعَزّي كلّ قَلبٍ ذائِبِ

أو إِذا هَاجَ فؤادي واضطرَب
أتَغَنّى بِشَبَابِي الذّاهِبِ

كَرَبٌ في كَرَبٍ فوقَ كَرَب
صَارَ عَيشي بَعدَ حظي الهارِبِ

فَدَعوني في الدّجى مُحتَجِبا
طالَ لَيلى ما لهُ من قِصَرِ

أرقُبُ الأفلاكَ أرعَى الشُّهُبَا
وَبِنَفسي مَا بِهَا مِن كَدَرِ

لَيتَني أدركتُ مامعنى المَشيب
عندما قد كُنتُ في شرخِ الشّباب

كان ظني أن نجمي لا يغِيب
فإذا بالنجمِ قد ولَّى وَغَاب

لَيسَ لي في هذهِ الدّنيَا نصيب
بعدما في العمرِ ضيّعتُ الحساب

غير أني قَد تخّذتُ الأدَبَا
حِرفَةً ألهو بِهَا في كِبَري

وتركتُ الذكر عمّا ذَهَبَا
من حَياتي أو مضى من خَبَري

لَيتَني يا لَيتَني موسى الكَلِيم
فَأُنادي اللهَ من رَأسِ الجَبَل

رَبّ إن الناس في لَيلٍ بَهِيم
حَيثُ بضدرُ الأمنِ في الدنيا أفَل

يَستَضِيئُونَ بِنَارٍ كَالجَحِيم
أوجَدوها من حُرُوبٍ تَشتَعِل

عَبَدُوا رَبّاً لَها مُنتَسِبا
فَغَدوا يَمشونَ عُميَ البَصِرِ

فَأعطِني لَوحَ الوَصَايا سَبَبا
لِسلامٍ يا إلهَ البَشَرِ

لَيتَني في الحَقلِ أرعى الغَنَما
صارفاً عمري سميراً للنّجُوم

خالِياً مِن كلّ همٍّ مثلمَا
غَنَمي قد جَهِلَت معنى الهُمُوم

فإذا هَبّت رِياحٌ وَهمى
مَطَرٌ وَانتَشَرَت فَوقي الغُيوم

أنفخُ الشبّابَ أشدُو طَرَبا
وَقَطِيعِي سائِرٌ في أثَري

لَستُ أخشى مِن غُرَابٍ نَعَبَا
آمِناً لَم أدرِ مَعنى الحَذَرِ

لَيتَني أعلَمُ في أيّ النّجُوم
حَلّ رَبُّ العاشقينَ الفارِضي

لَبَعَثتُ النفسَ من خَلفِ الغُيوم
فَتُنَاجِيهِ بِبرقٍ وَامضِ

رَاحَ لم يُبقِ لَنَا غيرَ الرّسوم
في حَوَاشي كلّ سّرٍ غَامضِ

سائِق الأظعَانِ أينَ احتَجَبَا
صاحب الآيات سامي الفِكَرِ

يا لَهُ مِن بحرِ حُبٍّ عَذبا
نلتَهِي مِن بعده بالدّرَرِ

لَيتَني في هذهِ الدّنيَا أكُون
مثل مَن في الكهفِ قد كانوا نِيَام

يَقظَيّ قَد أتعَبَت مني الجُفون
فلِهذا كرهَت نفسي القِيَام

رُبّما إن نمتُ دهراً بِسكون
عدتُ والدّنيَا غَدَت تَرعى الذّمَام

ربّ شيء بَعدما قَد صَعَبَا
هَوّنَتهُ حَادثاتُ الغِيَرِ

مَن تُرَى يَعلَمُ مَا قد كُتِبَا
في سِجِلاّتِ القضَا والقَدَرِ

لَيتَني في رَوضَةٍ عِندَ الغَدير
باعتزالٍ عَن جِهادي في الوجود

مُصغِياً كُلِّي لِذَيّاكَ الخرير
وهوَ يَتلو من أناشِيدِ الخُلُود

مَا أُحَيلى القلب في الدنيَا كسير
فهو عنوَانٌ لمَن يرعى العُهُود

رَقّ حتى كُلّمَا هَبّت صَبَا
حملتهُ مع نَسِيمِ السَّحَرِ

وهوَ يَتلو باكِياً مُنتَحِبا
يا زَمَانَ الحُبِّ تحتَ الشّجَرِ

لَيتَني كُنتُ غَنِيّاً فَأجُول
بينَ أحيَاءٍ عَلَيها الفقرُ ساد

أُقرضُ المسكينَ إذ ربي يقول
سأُجازي مَن عَلى المسكين جَاد

آه كم في هذه الدّنيَا جَهُول
لَو تُناديهِ لَنَادَيتَ الجَماد

صَبّتِ الدّنيَا لَدَيه ذَهَبَا
وَأحَلّتهُ مُتُونَ السُّرُرِ

وَهوَ لَو جَرّبتَهُ ما وَهَبَا
لِبَني الإنسان غيرَ الضّرَرِ

لَيتَني أسكُنُ مَا بين الصخور
عِندَ شاطي البَحر في بَرٍّ بَعِيد

حيثما أصغي إِلى صَوتِ الدّهور
مِن فَمِ الأموَاجِ يُتلى كالنّشيد

لُغَةٌ يَشتَاقُهَا قلبُ الصّبُور
فهيَ تدعو النّفسَ للعهدِ العَتِيد

فَذَرُوني إِنّ دمعي نَضبَا
وَكَذا طَرفي قَضى بالسّهَرِ

والّذي أصبُو إِلَيه اقتَرَبَا
لَيتَ شعري ما أرَى في سفري