التذكار - إبراهيم ناجي

معرّبة عن "الفرد دي موسيه"

بي نزوعً إِلى الدموعِ الهوامي
غير أني أخافُ من آلامي

أيهذا المكان! يا غالي الترب!
ومثوى عبادتي واحترامي!

أنت مثوى الذكرى ومدفنُها الغا
لي القصيُّ المجهولُ في الأيام

هذه خلوتي فلا تمنعوني
ما الذي تحذرون يا خلاني

انها عادتي التي كنت أعتادُ
وأهوى في سالفِ الأزمانِ

أخذتني لذِي الرحاب وقادت
قدمي في سبيلِ هذا المكان!

أنظروا هذه السفوحَ وهذا النبتَ
إذ قام مزهراً تيّاها!

لكأني ما زلتُ تسمع أذني
في صموتِ الرمالِ وقع خطاها

وكأن النجوى بكل ممرٍّ
طوقتني في سترهِ يمناها!

قد تراءى الصنوير النضر إذ أينع
في قاتمٍ من الألوانِ

وتراءَى ليَ المضيقُ البعيدُ
الغور يمتدُّ في رخيّ المجاني

موحشات لكنما كن آلا
في ومهد الهنيء من أزماني

أنا ما جئتَ ها هنا أذكر الأشجانَ
في موطنٍ عرفت فيه هنائي

ذلك الغاب رائع الحسن والصمت
مثال الجلال والكبرياءِ

وفؤادي عاتٍ كرائعِ هذا الغابِ
مستكبرٌ على البرحاءِ!

من يشأ أن يفيضَ يوماً بشكواه
فما هذا موضع الأحزان

قل لشاكٍ هلاَّ مضيت لتجثو
عند مثوى ميت من الخلان!

كل شيء حيٌّ هنا وباتُ القبرِ
ينمو في غيرِ هذا المكان!

طلع البدرُ يرتقي ذروةَ الأُفقِ
ويجتازُ حالكَ الأسدادِ

يا أمير الظلام إِنك تبدو
حائرَ الرأي، واضحَ التردادِ

ثم تمضي مجاوزاً حجبَ الليلِ
وترمي بنوِرك الوقَّادِ

كلّما شارف الثرى فيض نورٍ
مرسلٍ من جبيِنك الوضّاحِ

وإِذا الأرض قد تضوَّعَ منها
عن ثراها النديِّ عطرُ الصباحِ

استشرت عطرَ القديمِ من الحبِّ
دفين العبيرِ في الأرواح

أيهذا الوادي المجبب ما زرتك
حتى سألت عن أوصابي

إيْن راحت لواعجي أيْن آلامي
اللواتي أهزمنَنِي في الشباب

عاودتني طفولتي فيك حتى
خلتُ أني ما اجتزتُ يومَ عذاب!

يا خفاف السنين! يا صولة الدهرِ
قويّاً مثل الجبابرِ عاتي

كل ماضي صبابة قد أخذتن
فمن مدمعٍ ومن حسراتِ

ورحمتنَّ لي أزاهر ذكرى
علقتْ في ذبولها بالحياةِ

فسلام مني على الأيامِ
كيف آستْ في النازلاتِ الجسامِ

لم أكن أدرِي أن جرحاً بما كابدتُ
منه من فاتك الآلامِ

معقبٌ لذةً لنفسي واحساسَ
هناءٍ لديَّ بعد التئامِ

فليبْن عنيَ السخيفُ من الرأيِ
وتنأَى سفاسفُ الأقوالِ

وهمومٌ كواذبٌ كفنت أثْوابٌها
حُبَّ عاشقين ضآلِ

جعلوها مظاهراً لهواهم
والهوى الحقُّ ليس منهم ببالِ

ايه دانتي! أأنت ذاك الذي قال
قديماً عن ذكرياتِ الهناء:

انها إن مرَّت على ذاكريها
زمن الحزن فهي أشقى الشقاء!

أي بؤسي أملت عليك مرير القولِ
حقّاً أسأت للبأساءِ!

أو إنْ أقبل الدجى بعد ادبارِ
نهارٍ صافي الضياء قضيتَهْ

تنكرُ النورَ في الوجودِ فيغدو
محضَّ وهمٍ كأنه ما رأيتَهْ

ذلك القول وهو جدّ عجيب
أيها الخالد الأسى كيف قلتَهْ

قسماً بالطهورِ من لهب الحبِ
مضيئاً في القلب شبه المنارِ

ما عهِدْنا في قلبك الوافر الإيمـ
ـانِ هذا الظلال في الأفكارِ

لا أرى للهناءِ والله صدقاً
مثل صدقِ الهناءِ بالتذكارِ

أو إنْ أبصرَ الشقيُّ وميضاً
في رمادِ الهوى فقام إليهِ

باسطاً نحوَه يديهِ بلهفٍ
حارصاً أن يمرَّ من كفَّيهِ

وبه من إشعاعهِ أثرُ البرقِ
إذا مرّ خاطفاً ناظريه

أو إن غاصت روحهُ في عبابِ الذ
كريات التي طوتها السنينْ!

أو هذا السرور من ذِكرِ الماضي
تسميه بالعذابِ المبين!

ان تروى أدمعي فلا تزجروني
ودعوني اني أحب الدموعَا

لا تجفف ايديكمُ أدمعاً تنفعُ
قلباً لمّا يزلْ موجوعا

أدمعي سترٌ مسبلٌ فوق ماضٍ
قد تولى ما يستطيع رجوعا!