الليالي - إبراهيم ناجي

مكانيَ الهادئ البعيد
كن لي مجيراً من الأنامْ

قد أمَّكَ الهاربُ الطريدْ
فآوهِ أنتَ والظلامْ

***

يا حسنها ساعة انفصال
لا ضنك فيها ولا نكد

يا حقبةَ الوهم والخيالْ
هلاَّ تمهلتِ للأبدْ؟!

***

يا أيها العالم الأخير
ماذا ترى فيك من نصيب؟

أراحةٌ فيك للضمير
أم موعدٌ فيك من حبيبْ؟

***

كم يَعذُب الموت لو نراه
أو كان فيك اللقاء يرجى

ينفضُ عن عينه كراهُ
ويقبل الراقدُ المسجَّى!

***

لكن شكّاً بما تجن
خيّم فوق العقول جمعا

عجبتُ للمرءِ كم يئنّ
ويستطيبُ الحياةَ مَرعَى

***

قد صار حبُّ الحياة منا
يقنع بالجيفة السباعْ

وعلم السمحَ أن يضنَّا
وثبَّت الجبنَ في الطباعْ!

***

طال بنا الصمتُ والجمودْ
لا البدر يوحي ولا الغديرْ

يا عالم الضيم والقيود
برّحت بالطائر الأسيرْ!

***

هربتُ من عالمٍ أضرَّا
وجئتُ يا كعبتي أزور

هاتي خيالاً إذن وشعراً
أسكبه في فم الدهورْ

***

هربتُ من عالم الشقاء
وجئت عليّ لديكِ أحيا!

أشرب من روعة السماء
شعراً وأسقي الفؤاد وحيا!

***

ملكَ في هاته العوالمْ
مهزلةَ الموت والحياةْ

وصورة القيد في المعاصم
ووصمة الذلّ في الجباه

***

هياكلٌ تعبرُ السنين
واحدةُ العيش والنظامْ

واحدة السخط والأنين
واحدة الحقد والخصامْ!

***

وواحد ذلك الطلاء
يسترُ خزياً من الطباعْ

أفنى البلى أوجه الرياء
ولم يذُبْ ذلك القناع!

***

بعينها كذبةُ الدموعْ
بعينها ضحكةُ الخداعْ

ومُنحنى هاته الضلوع
على صواد بها جياع!

***

كأن صدر الظلام ضاقْ
من كَثرة البثّ كل حينْ!

يا ويحه كيف قد أطاقْ
شكوى البرايا على السنينْ؟!

***

كأنما ينفث الشهب
تخفيف كربٍ يئنّ منه

كالقلب إن ضاق واكتأبْ
تخفف الذكريات عنهُ

***

كم زفرة في الضلوع قرّتْ
يحوطها هيكلٌ مريض

مبيدة حيثما استقرت
فان نبُحْ سمِّيت قريض!

***

كم في الدجى آهةٌ تطول
تسرى إلى أذنه وشعرْ!

لو يفهم النجمُ ما نقول!
أو يفهم الليلُ ما نُسرْ!

***

ما بالها أعين الفلك
منتثرات على الفضاءْ

تطل من قاتمِ الحلك
بغيرك فهمٍ ولا ذكاءْ!

***

ألا وفيّ ألا معين
في مدلهم بلا صباح؟!

وكلّما جَدَّ لي أنينْ
تسخر بي أنَّةُ الرياحْ!

***

هبنا شكونا بلا انقطاع
ما حظ شاكٍ بلا سميع

وحظ شعرٍ إذا أطاعْ
يا ليته عاش لا يطيع

***

يضيع في لجة الزمن
مبدداً في الورى صداه

ولن ترى في الوجودِ مَنْ
يدري عذاب الذي تلاهْ!

***

يا أيها النهر بي حسدْ
لكل جارٍ عليك رفّ

أكلّ راجٍ كما يود
يروي ظماه ويرتشف

***

ومن حبيب إلى حبيب
ترنو حناناً وتبتسمْ

وكل غادٍ له نصيب
من مائك البارد الشبمْ

***

يا نهرُ روّيتَ كل ظامي
فراح ريّان إن يذُقْ

فكن رحيماً على أوامي
فلي فمٌ بات يحترق

***

يا نهر لي جذوة بجنبي
هادئة الجمرِ بالنهارْ

فإن دنا الليل برّحت بي
وساكن الليل كم أثار

***

وقفت حرّان في إِزائكْ
فهل ترى منك مسعدُ؟

وددت ألقي بها لمائك
لعلها فيك تبرد

***

عالج لظاها فإن سكنْ
فرحمةٌ منك لا تحدْ

وإن عصت نارها فكن
قبراً لها آخر الأبد!

***

تريني الهاجر الشتيت
وقربه ليس لي ببالْ

وكلما خلتني نسيت
مر أمامي له خيال

***

تمر ذكرى وراء ذكرى
وكل ذكرى لها دموعْ

وتعبر المشجيات تترى
من ماضٍ بلا رجوع

***

ماضٍ وكم فيه من عثارْ
ومن عذابٍ قد انقضى

كم قلت لا يرفع الستار
ولا ادكارٌ لما مضى!

***

يا من أرى الآن نصب عيني
خياَله عطَّر النسمْ

بالله ما تبتغيه مني
ولم تدع لي سوى الألم

***

في ذمة الله ما أضعتمْ
من مهجٍ أصبحت هباءْ

لم نجزكم بالذي صنعتم
إنَّا غفرنا لمن أساءْ

***

لا تحسبو البرء قد ألَمّ
فلم يزل جرحنا جديدا

يخدعنا أنّه التأمْ
ولم يزل يخبأ الصديدا!

***

يا أيها الليل جئت أبكي
وجئت أسلو وجئت أنسى

طال عذابي! وطال شكي
ومات قلبي، وما تأسَّى!

***