لا زلتُ أشكو لوعةَ الغُرباءِ - جمال مرسي

في ليلةٍ مـن باهـرِ الأضـواءِ
فاحتْ بعطرِ الروضـةِ الغنَّـاءِ

و ترنَّمَتْ فيها عصافيرُ الهـوى
تشدو بلحـنٍ رائـعِ الأصـداءِ

خَفَقَتْ لهُ كلُّ القلوبِ ، تمايَلَـتْ
من سكرةِ الألحانِ و الصهبـاءِ

لكنَّ قلبي لم يـزل فـي ذِكـرةٍ
أقصَتْهُ عن نورٍ و عن ضوضاءِ

مُتنحياً في ركنِـهِ عـن عالـمٍ
مُتغيِّـرِ الألـوانِ كالحـربـاءِ

في عزلةٍ أصبو لها كالعاشقيـنَ
و زُمـرةِ الزُهّـادِ و الشعـراءِ

قد كنتُ فيها شارداً ، و كأننـي
عادتْ بيَ السنواتُ ألـفَ وراءِ

يومَ التقينا ها هنـا ، فتسللـتْ
كفّي لتقطِـفَ نجمـةَ الإمسـاءِ

و تداعب البدرَ المنيرَ فتصطلي
بالنـارِ مثـل فراشـةٍ حمقـاءِ

أو تمسح الدمعَ الذي أَهْرَقْتِـهِ
فوقَ الخدودِ يتيهُ فـي خُيـلاءِ

في عزلتي إني هنـا محبوبتـي
لا زلتُ أشكو لوعـةَ الغُرَبـاءِ

و مخاطباً نفسي ، و ما بي جِنَّةٌ
حتّامَ تبقى حَيْرتـي و شقائـي

فتجيبني : يا صاحبي عِشْ واقعاً
لا تلتحِفْ في الليـلِ بالظلمـاءِ

اُخرجْ ، فإنَّ حياتنـا كخميلـةٍ
مرويَّـةٍ بالـمـاءِ لا بـدمـاءِ

فيهـا أزاهيـرٌ تبايـن لونُهـا
و تنوَّعَت في الحُسنِ و الأسماءِ

فيها من الأطيارِ أسرابٌ ، فمـا
نعبُ الغـرابِ كرقـةِ الورقـاءِ

يا صاحبي ، إن الحياةَ كمسرحٍ
و الـكـلُّ أدى دورَهُ بسـخـاءِ

هذا غنيٌّ ، هكـذا يبـدو بهـا
ليس الغِنى بجواهـرٍ و كساءِ

إنَّ الغِنى أن تطمئنَّ ، و ترتدي
ثوبَ العفـافِ مُرَصَّعـاً بإبـاءِ

يا صاحِ دع عنكَ الهمومَ ، فإنها
تسري كَسُـمِّ الحيّـةِ الرقطـاءِ

نحِّ التشـاؤمَ جانبـاً ، فكأنَّـهُ
في سطـوِهِ كغمامـةٍ سـوداءِ

تمضي السنونُ بحُلوِها و بمُرِّها
و بما حَوَتْ من راحةٍ و عنـاءِ

و يظـلُّ أمـرُ اللهِ فينـا نافـذاً
بالحقِّ ، لا بشريعـةِ الغوغـاءِ

فاقنع بحكـم اللهِ فـي عليائِـهِ
لا يملـكُ الإنسـانُ ردَّ قضـاءِ