يا والدي - جمال مرسي

حينما أقبلَ الشتاء ببرده الشديد و وحشة ليله الطويل

كتبت لوالدي هذه الرسالة

***

يا و الدي ، إني هنـا يـا والـدي
لا زلت أقبعُ فـي جـوارِ الموْقِـدِ

بـردُ الشتـاءِ أصابنـي ، خبَّاْتُـهُ
تحتَ الثيابِ ، دفنتُهُ فـي مرْقـدي

لا زلتُ أجلـسُ و السكـونُ يلُفُّنـي
و الحزنُ يأكلُ في وعائي من يـدي

لا زال في جيْبـي خطـابٌ مُفْعَـمٌ
بالشوْقِ منكَ ، و لهفةٌ لـك تَبْـرُدِ

لا زالتِ الأوراقُ حيـرى تكتـوي
و يراعتي في غُربتي لـم تصمـدِ

تشكو إليكَ و حبرها مـن أدمعـي
بطشَ الذئابِ و قَسْوَةَ الزمنِ الـرَّدِي

الليلُ يزحفُ نحـوَ بابـيَ شاهـراً
سيفَ الظلامِ ، و قد تَرَبَّصَ بالغَـدِ

و الرِّيحُ تعوي خلفَ شُبّاكِ الأسـى
هلْ أدْرَكَتْ أني أعيشُ بمفـردي ؟

هل أدرَكَـتْ أنَّ الرفـاقَ تحمَّلـوا
قبلَ المغيبِ ، و ليس لي من مُنْجِدِ ؟

أم خافـت الريـحُ العقيـمُ فأقبَلَـتْ
نحوي لتلتمسَ الأمـانَ و تهتـدي ؟

أَتَضَوَّرَتْ جوعاً كنصفِ الأرضِ،أمْ
خارتْ من الحربِ التي لم تُخمـدِ ؟

أم أنهـا جـاءت بأسمـالٍ لـهـا
تُبدي الأسى من دونِ سابِقِ موْعِدِ ؟

يا والدي ، جاءَ الشتاءُ فيـا تُـرى
كم من فقيرٍ في الشقاءِ السرمـدي ؟

كم من أسيرٍ خلفَ جُـدرانِ العِـدا
أكلَ الخَشاشَ ، و سفَّ رملَ الفدفَدِ ؟

كم من بتـولٍ قـد أُبِيـحَ وقارُهـا
مـن ظالـمٍ متجـبِّـرٍ مُتَـمَـرِّد ؟

كم مـن غنـيٍّ موسِـرٍ و مُرَفَّـهٍ
أعطى بإخـلاصٍ و لـم يتـردَّدِ !؟

لمّا رأيتُ الليـلَ خـارجَ غرفتـي
مُتَوَشِّحـاً ثـوبَ الظـلامِ الأسـوَدِ

و رجعتُ بالعينينِ أقـرأُ مـا بهـا
و الضوءُ يكسوها ، و دفءُ الموقدِ

و الخيرُ ، كلُّ الخيرِ فـي أرجائهـا
فـي حُسْنِهـا المُتَأَلِّـقِ المُتـجـدِّدِ

أيقنتُ كـم حجـم النعيـمِ أعيشُـهُ
و بأنني في السـوءِ إنْ لـم أحمَـدِ

فَرَفعْتُ كفِّـي بالضَّراعَـةِ شاكـراً
للهِ ، لـم أفْـتُـرْ و لــم أتَبَـلَّـدِ

و دعَوْتُ ربِّـي أن يعُـمَّ رخـاؤُهُ
من كان يتَّبِـعُ الرسـولَ و يقتـدي

و ذكرتُ نبرةَ صوتِكَ الحُلْوِ الـذي
جابَ المكانَ كنسمَةِ الصُّبحِ النَّـدِي

فرأيتُ كيفَ الصُّبحُ يُسفِرُ ضاحِكـاً
من وجهِكَ الغَضِّ الجميـلِ الأملَـدِ

و سمعتُ شدوَ الطيرِ فـي همساتِـهِ
يحنو على القلـبِ العليـلِ المُسهَـدِ

ألقيـتُ حزنـي حينـذا ، أحرقْتُـهُ
في النَّارِ ، دونَ تكاسُـلٍ و تـردُّدِ

و حمدتُ ربَّ الكوْنِ فـي عليائِـهِ
أنْ كُنتَ أنتَ ، و ليسَ غيركَ والدي