الشاعر في وادي الموتى - سيد قطب
من الطارق الساري خلال المقابر
كخفقة روح في الدجنات عابر ؟
من الوجل المذعور في وحشة الدجى
تقلبهُ الأوهام في كل خاطر ؟
يُنقّل في تلك الدياجير خطوهُ
ويخطر في همس كهمس المحاذر؟
وقد سكنت من حوله كل نأمة *
سوى قلبهُ الخفاق بين الدياجرِ
وغشاه روع الموت ، والموت روعة
تغشى فيعنو كل نِكس وقادر؟
***
هو الشاعر الملهوف للحق والهدى
وللسر لم يكشفهُ ضوء لناظر
تحير في سر الحياة وما اهتدى
إليه ، ولم يقنع بتلك الظواهر
وساءل عنه الكون والكون حائر
يسير كمعصوب بأيدي المقادر
وساءل عنه الموت ، والموت سادر
وساءل عنه الشعر في حنق ثائر
وساءل عنه كل شيء ، فلم يفز
بشيء ولم يرجع بصفقة ظافر !
***
أفي هذه الأجداث طلسم سرّه
لعل فمن يدري بسر المقابر ؟
ألم يخلع الموتى الأحابيل كلها ؟
أحابيل أوهام الحياة الجوائر ؟
ألم يتركوا الدنيا الغَرور لأهلها
ويستوثقوا مما وراء المصائر ؟
ألا تهمس الأرواح بالسر إذ سرى
إليها ؟ ألا تهدي اليقين لحائر ؟
أجل ! ربما تعطي الجواب لسائل
وربما تجلو المصير لشـاعر !
***
وفيما يناجي في حمى الصمت نفسهُ
تسمّع همساً من خلال الحفائر
" من الطارق الساري خلال المقابر
فأقلق منّا كل غاف وساهرِ "
" أما يقنع الأحياءُ بالرحب كله ؟
أيا ويح للأحياء صرعى المظاهر "
" تركنا لهم دنياهمو وديارهم
ولم يدعونا في حمى غير عامرِ "
***
وقال فتى منهم حديث قدومه
بنغمة إشفاق ونبرةَ ساخر !
" لعل الذي قد دب في ذلك الحمى
وأيقظ في أحشائه كل سادر"
" أخو صبوة ، يهفو إلى قبر ميتة
له عنده وجد وتحنان ذاكر "
يقرّبهُ منه التذكر والهوى
وتبعدهُ عنها غلاظ الستائر "
" وما أخدع الحب الذي في ديارهم
يغشى على أبصارهم والبصائر "
وقالت لهم أم وفي صوتها أسى
ونبرة تحنان ، وكتمان صابر
" ألا ربما كانت ثكولاً حزينةً
على فلذة من قلبها المتناثر "
" وربتما كانت عجوزاً تأيمت
وضاقت بدهر ناضب العون غادر
***
وقد ذهبوا في حدسهم كل مذهب
وفيما حوته نفسهُ من مشـاعر !
***
وجلجل صوت الشيخ يدوي كأنما
هو الدهرُ في صوت من الروع ظاهر
" من الطارق الساري خلال المقابر
فأقلق منا كل غاف وساهر " !
***
فقال أخو الأحياء والقلبُ خافق
من الوجل الأخاذ ، في صوت حاسر
" أنا الحي لما يدر أسباب خلقه
أنا المدلج الحيران بين الخواطر "
" دلفت إلى وادي المنايا لعلني
أفوز بسر في حناياه غائر "
" أما تعلمون السر في خلق عالم
يموت ويحيا بين حين وآخر "
" وتكنفهُ الأحداث من كل جانب
ويركب للغايات شتى المخاطر "
" وليس له غاية غير أنه
مسوق إلى تحقيق رغبة قاهر "
" ضنين بما يبغيه ليس يبيحهُ
لسائله عما وراء الظواهر "
" وماذا لقيتم بعد ما قد خلعتمو
قيود الليالي الخادعات المواكر ؟ "
" وماذا وراء الغيبِ والغيبُ مطبقٌ
وهل يتجلى مرة للنواظر ؟ "
" سؤال أخي شوق ، وقد طال شوقهٌ
وحيرتهُ ، بين الشكوك الكوافر "
***
أريت لو ان الهول صُور منظراً
تجلله الأخطار جد غوامر ؟
كذلك ساد الصمت بين الحفائر
وران على أرواحهم والضمائر
وأذهل هاتيك النفوس فخفضت
من البهر والإعياء دقات طافر
***
وجلجل صوت الشيخ يدوي كأنه
يحدّث من كون قصي المعابر !
" أيا ويلها تلك الحياة وأهلها
تكشف عن بلوائها كل ساتر "
" وتطلب أسباب الشقاء لنفسها !
فتضرب في تيه من الشك غامر "
" وتسأل عن " سر " وليست بحاجة
إلى السر تشريهِ بأنفس حاضر ! "
" لقد أغمض الموت الرحيم جفوننا
وهدّأ في أفكارنا كل نافر !
" نسينا سؤالا لم يزل كل كائنٍ
يردده حيران في حرز " حازر " !
" نسيناه فارتحنا من الحيرة التي
خسرنا بها الأعمار جد نواضر "
" وهاأنت ذا تذكيه ، يا لك جائر
ويالك مخدوعا بسر المقابر "
أريت لو ان الهول صور منظراً
تجلله الأخطار جد غوامر ؟
كذلك ساد الصمت بين الحفائر
وران على أرواحهم والضمائر
وأذهل هاتيك النفوس فخفضت
ز من البهر والإعياء دقات طافر
***
وعاد أخو الأحياء بعطو بحسرة
ولهفة محروم ، وإعياء خائرِ
لقد كان في الموتى وفي الموت مأمل
يعلله بالكشف عن كل ضامر
فألفى سرابا ثم لا ينقع الصدى
فوا ندما عن بحثه المتواتر !
فقد كان خيرا أن يعيش على المنى
ويأمل بعد الموت كشف الستائر
ويا ليت هذا الموت يسرع خطوه
فيطوي حيّا عمره ربح خاسرِ !
*
1934