ووَجَدْتُ رَدًّا للسُّؤَال - عبدالعزيز جويدة
(1)
                                                                    دَقَّ بَابي في الصَّباحْ
                                                                    وَقْتَها اهْتزَّت خُطاي
                                                                    قُلتُ : مَنْ ؟
                                                                    قالَ لِي : افْتَحْ
                                                                    وَفَتحْتُ
                                                                    لَمْ أَجِدْ شَخْصًا سِواي
                                                                    (2)
                                                                    دَقَّ بابي في المَسَاءْ
                                                                    قُلتُ : مَنْ ؟
                                                                    قالَ لِي : افْتَحْ
                                                                    وفَتحْتُ
                                                                    فوجدْتُ ..
                                                                    خَلفَ بَابي
                                                                    خُوذَةً ،
                                                                    نِصْفَ حِذاءْ ،
                                                                    وبَقايا بُنْدُقِيَّةْ ...
                                                                    رِجْلَ جُنِدِيٍّ ، وَسُتْرَةْ
                                                                    وغِطاءَ " الزَّمْزَميَّةْ "
                                                                    يَتسرْبَلْ
                                                                    في الدِّماءْ
                                                                    (3)
                                                                    دَقَّ بَابي في العِشاءْ
                                                                    قُلتُ : مَنْ ؟
                                                                    قالَ لي : افْتَحْ
                                                                    وَفَتحْتُ
                                                                    فوَجدْتُ
                                                                    رَأسَ جُندِيٍّ ،
                                                                    وقلْبًا يَنتَفِضْ
                                                                    كلَّما مَسَّتْهُ كَفِّي
                                                                    ألتَقيهِ
                                                                    قدْ نَبَضْ
                                                                    دَقَّ بابي عِندما الجَفْنُ اغْتَمضْ
                                                                    قلتُ : مَنْ ؟
                                                                    قالَ لي : افتحْ
                                                                    وفتحْتُ
                                                                    لمْ أجِدْ شيئًا ، ولَكنْ
                                                                    قدْ لَمحْتُ الهَيْكَلَ العظْميَّ يَنْهَضْ
                                                                    فَصرخْتُ
                                                                    فإذا بالهيكَلِ العظٍميِّ واقِفْ
                                                                    صارَ شَخصًا ، ونَهَضْ
                                                                    قُلتُ : مَنْ أنْتَ ؟
                                                                    أجابَ :
                                                                    إنَّني الجُندِي
                                                                    "عَوَضْ"
                                                                    (4)
                                                                    كُنتُ طِفلاً
                                                                    عِندما شَاهدْتُ أُمِّي
                                                                    مَرَّةً ذاتَ صَباحْ
                                                                    ترْتَدي هَذا الوِشَاحْ
                                                                    وارْتَميْتُ فجْأةً في صَدرِها
                                                                    فإذا بالصَّدرِ حَقلٌ مِنْ جِراحْ
                                                                    وَقْتَها قدْ كُنتُ أسمَعْ
                                                                    عنْ بياناتِ الحُروبْ
                                                                    وهُنالِكْ
                                                                    فَوقَ سَطْحِ البيتِ كانتْ
                                                                    سُتْرَةٌ فوْقَ الحِبالْ
                                                                    في انْتِظارِكْ
                                                                    يا أبي
                                                                    حتى تَؤوبْ
                                                                    وتَذكَّرْتُ قَليلاً في أسى
                                                                    يَومَ أن كانَ أبي
                                                                    رَاحِلاً بَينَ الجُنودْ
                                                                    وانتظَرْناهُ يَعودْ
                                                                    كُلَّ يَومٍ في انتِظارْ
                                                                    كلَّ يَومٍ من دُموعِ الحُزْنِ كانتْ
                                                                    تَرتَوي أُمِّي ، وتَغْزِلْ
                                                                    مِن أساها مَوعِدًا فيهِ رُجُوعْ
                                                                    يَهْجِمُ الحُزْنُ على أمي كَذئْبٍ
                                                                    فَتُغنِّي ،
                                                                    وتُحيطُ ..
                                                                    نفسَها مِن بَطْشِهِ
                                                                    بِسِياجٍ من دُموعْ
                                                                    (5)
                                                                    وانتظرْناكَ كثيرًا يا أبي
                                                                    حتى تَعودْ
                                                                    في حَياتي مَرَّةً لَم نَلتَقِ
                                                                    إنَّما قد كانَ قلبي يَحتويكْ
                                                                    مِن كَلامٍ ردَّدَتْهُ ـ في مساءِ الحُزنِ ـ أُمِّي
                                                                    عِندما تَحكي عليكْ
                                                                    وأنا أجري وأَلْثُمْ
                                                                    في يَدَيْكْ ..
                                                                    صُورَةً في كُلِّ حائِطْ
                                                                    كنتَ تَحمِلْ
                                                                    في يَديكَ البُندُقيَّةْ
                                                                    وعَرَفْتُ
                                                                    أنَّ سيناءَ التي في الخلْفِ تَبدو
                                                                    هِيَ بِنتٌ عَربيَّةْ
                                                                    وأرادتْ مرَّةً أنْ تَتزيَّنْ
                                                                    فَصنعْتُم مِن مَآقِيكُم هَدِيَّةْ
                                                                    (6)
                                                                    وتَذكَّرْتُ بأنِّي قَدْ صَحَوتُ
                                                                    ذاتَ يَومٍ
                                                                    فإذا الدنيا ضَجيجْ ،
                                                                    وبُكاءٌ ،ونَشيجْ
                                                                    وإذا بالقَهْرِ مارِدْ
                                                                    طعْمُهُ طَعْمُ الرَّدى
                                                                    وإذا بالظُلمِ كالطوفانِ
                                                                    يَجتاحُ المَدَى
                                                                    أجْسادُ قتلَى
                                                                    وشِفاهٌ يابِسَةْ ..
                                                                    صَوتُ مِذياعٍ يَئِنْ
                                                                    ويُدوِّي بِسلامٍ
                                                                    للقُلوبِ البائِسَةْ
                                                                    (7)
                                                                    طَعْمُ المرارَةِ ، والهَزيمةِ
                                                                    صارَ فوقَ شِفاهِنا
                                                                    جَلْدُ السِّياطْ ..
                                                                    طَعمُ المِياهِ المالِحةْ
                                                                    عَلَمٌ مُنكَّسْ ،
                                                                    صُوَرٌ لأسْرانا ،
                                                                    وُجوهٌ كالِحَةْ
                                                                    في الصُّبحِ كان البابُ في عَجَلٍ يَدُقْ
                                                                    وسَمِعْتُ أمِّي
                                                                    صَرْخَةً في صرخَةٍ
                                                                    والثَّوبُ شُقْ
                                                                    (8)
                                                                    وكَبِرْتُ في يومٍ
                                                                    دُعِيتُ إلى القِتالْ
                                                                    وحَملتُ يومًا شَدَّتي
                                                                    وحضنْتُ حبَّاتِ الرِّمالْ
                                                                    وهَمسْتُ في أذُنِ القَنالْ :
                                                                    "أهُنا أبي؟"
                                                                    قالتْ : تَفرَّقَ في الرِّمالْ
                                                                    وجمعْتُ يا سَيْناءُ رمْلَكِ
                                                                    حَبَّةً من بعدِ حبَّةْ
                                                                    وصَنعْتُ من حُزني العَميقِ ..
                                                                    صَنعتُ في الأعماقِ تَبَّةْ
                                                                    عَمَّرْتُ في صَمتٍ سِلاحي بالغضبْ
                                                                    أطْلقْتُ حقدي
                                                                    غَضْبَةً .. من بعدِ غَضْبَةْ
                                                                    كانتْ شِفاهُ الرَّملِ يابِسَةً
                                                                    وعَطْشَى للرجالِ
                                                                    القادِمينَ مِنَ المُحالْ
                                                                    هَطَلَ القِتالُ كما المطَرْ
                                                                    هطَلَ القِتالْ
                                                                    والسَّاحُ ساحُكَ يا وَلَدْ
                                                                    والثَّأرُ غَالْ
                                                                    صَوتٌ يُناديني :
                                                                    تَقدَّمْ ،
                                                                    لا تَخَفْ
                                                                    وَلَدي تَعالْ
                                                                    الصَّوتُ صوتٌ أعرِفُهْ
                                                                    صوتٌ يُحَمَّلُ بالرَّصاصِ ،
                                                                    وبالوُعودِ ،
                                                                    وبالخَيالْ
                                                                    الصوتُ صوتُكَ يا أبي
                                                                    والقلبُ نحْوَ الصوتِ مالْ
                                                                    "جُندي عَوَضْ"
                                                                    الآنَ أدْرَكْتُ الحقيقَةَ يا أبي
                                                                    ووجدْتُ رَدًّا ..
                                                                    للسُؤالْ