سـوسنة الخمسين - عزت الطيري

فى ذلك الركن القريب
من الحديقـــة
أزدهى بفراغ قلبى من همومٍ
لحظتين ، فأنتشى ،
وأصب شاياً ، أحتسى ،
نعناعة البرى مختلطاً
وأصنع من قصاصات الجرائد
مركباً ، ألقى به فى جدول
يمضى إلى غاياته .
وأقيم من صلصال طفلى
مدفعاً
أصطاد عصفور الحنين
ولا حنين يحط ،
أو يستاف زهراً نائماً
فأنــــا الحنين
أنا المدجج بانكسار الحلم
فى وضح الدمار
أنا المزود بالسكينة والهدوء
وسوء تقدير الشعور
أنا البنفسج إذ يفضُ
بكارة النسمات بالعبق الضرير
وإذ ينــوء بخوفه ،
وبطيف أهداب الحرير ..
أنا السمندل حين أحرق ريشه
ومضى إلى مرج النهاية
يحتفى بالموت فى خطراته
وأنا الحمام يبيض
فى شجر الغيوم ،
ولا غيوم سوى السراب اللانهائى
الفســيحِ
أنا الجريـحُ
ولا مراهم ترتجـى
فى عطلة الأحد ، الصيادلة
استكانواللنعاس
نسوا تعاليم المسيحِ
مشوا على ورد الجراحِ
وأنا الجـراح المثخنات
بعشق خنجرها المتاح
وأنا الصباح ، إذا أطلَّ
وملَّ من بوح البلابل
والعنادل والفواخت
وارتباكات الصغيرات الأرامل
من هدير أنوثةٍ وئدت سريعاً
فارتخين على الأرائك ، يستعدن
مواسم الأفــراح
فى غرف الحنين الغض
والهمس المباحِ ..
كـــلا ..
وهل خمسون عاماً
من نضال الخوف
تكفـــى ،
كى أقيم حضارةً
لمواسم الصبوات ؟
هل تكفى لأصنع موكباً للورد ؟
أحصى فى خسارات الفؤاد
خســــارةً
وخســـارتين
وأكتـــوى .... ،
من أيقظ الفوضى ،
بطابور الصباح المدرسى
ومن دعى قلبى ، لأهجر حصة الكيمياء
أعدو للفناء ، وللحديقة
متخماً بطراوة الألوان
أرســـم ما يعــن لريشتى
أمضى إلى تلك المجلات القديمة
بالمقص ، أقص وجه جميلة شقراء
ألصقه على صدر المحارب
كى يدندن غنوة ، يرتاح من
باروده ، وأقص ذئباً حافى القلبين ،
يبكى جوعه اليومى
أدخله إلى بيت الخراف
أقص حلماً ناعساً ، يهمى على
أهداب زينبَ فى فصول الطالبات
أحــن ، أهــذى
ليت للبراق عيناً ، يا رفيق الحزن
حين أتتك زينب تصطفى شعراً
وتكتبه على قلق ، وتلقى
بالســعير
على مدارج همسها الملكى
فى سمر الضحى
عمتم صباحاً يا رفاق
وكنت أعرف أنــها
تعنى صباحى ...
رد الرفاق ، وهل أجبت
وهل وقفت على مداخل شارع
يبتل فى ماء الغسيل الرخو
مبتلاً بمــاء الحزن
أرقب خطوها المسروق
من خطو الأقاحى ... !!
ماذا ألــمَّ
بطلقة التفاح
هل نــامت ؟
وهل غفـلت ؟ عن الجرس الطويل
يـــدق ،
يشعل صبحها على دمنا طيوراً
كــى تلوح
بالمناقير الصغيرة ، والجناحِ
........................... ...
ومضــيت
فى ليل اغترابى
بعض أعوام ، أُسَرِّب حزن
أيام طوال بين أروقة الدراسة
والمحاضرة الأليفة والمخيفة
والمملة والمخــلة والحنين
إلى الورود الطالعات
بخد ليلى العامرية
والعيون الشاسعات بكحلهن
القادمات من الصحارى ، والبعيد
إلى المدرج ...
حين أعطتك المواعيد الشهيةَ
أسلمتك إلى الحنان البكر
والطهر البتول
وطالعت ، قرأت
شواغلك الخفية فى القصائد
فى حقول الدرس ، فى برد المعامل
فى المناحل فى خلايا النحل
فى الشهد النقى ، ودرس أمراض النبات
وحزن أمراض الفؤاد
إذا ازدهى بجنونه
وبكت فأشعلت اشتعالك
زخرفت أحلامك البيضاء
فى مقهى الحديبية القديم
وفوق أعمدة الإنارة
فى إشارات المرور ، وفى الشوارع
فى البنايات الحديثة
فى القصور المتحفية
فى المدى
فى مقصف الكلية الصيفى
فى قصر الثقافة ، فى المشاتل
عند مبنى الطالبات
وعند أكشاك الحراسة
عند أرتال الجنود الواقفين المترعين
بخوفهم من غضبة الطلاب فى
يوم التظاهر ، فى مجلات الحوائط
فى النشــيد ،
وفى .. ، وفى ..
وهفت إليك ، ترج حزنك مرة
لتبوح بالشعر الخفى على جوى
سنوات خوفك ، ترتقيه ، تضمه
كيما تعلقه على
أستار شرفتها البعيدة
فى الرمال البيض
قالت فى نهايات النهاية
عد إلى أقمار قريتك
النحيلة
مثقلا بحنان أغنيتى
وعطر الشوق فى قلبى المدلَّه
وازدهار مواسمى
وأعود وحدى
صوب ظلم الأهل ، فى بيت البداوة
يصطفينى فارس ، يشـتاق
يمنحنى الصحارى ، ثم أمنحه
فتــــىً
عيناه فى لون امتداد الحزن
فى عينيك ، ياوجع البلابل
أيها المفتون بالحجر الكريم
وباللآلئ
فى مكامنها الدفيئة
بالزمرد ، فوق صدر الفاتنات الغيد
إن أغوتك غيدُ
فأغمز جراحك .. عضها
قد مركبات الخوف
نحو مسارها العدمى
ما جاء البعيدُ ...
خمسون عاماً
يا صديق الشعر
والشعر الشراب المُر
فاكهة الحرام ، حرام فاكهة الحلال
وما تهــدج
من مواويل السواقى
وابتهاج الليل بالديك الذى
ظن الضياء بليلة البدر ابتداء الفجر
فاقترح الصلاة
وقــام
يتبعه المريدُ ..
ومواكب العشاق
إذ يتقاطرون وهم
يؤدون التحية للذى
لم يبتدئ بسلامهِ
أو يتعظ بسلافةٍ
ُسكبت على ريق الفلاة
فأســكرتها
وانتشــت
وترنمت بنشيدها الفياض
فارتعش النشيدُ ... !!
فترنمــى
يا أمنا الصحراء
وابتكرى المجاز العذب
واصطنعى الخرافة والمحال
ووجه ليلـــى
للذى ما عاد يذكر
غير ليلــى
فى ليالى الجمر
حين يسهد الأرواح
فى دورانــها
تعب عتيـدُ
والشعر أطـول
من نخيل جامح ، إن ناطح
الغيم العجول الثرَّ
أقصر
من قوام الخـس ،
أطرى من ندى ورقاتهِ
الخضراء ، أصعب من كثير
الصعب ، أسهل من دماء
ضحية سقطت على رمل
ومادت ، لم تبح بالســر
لم تفصـح
ولم يصدح عديدُ .. !!
فهل تــرى
تكفيك يا ولد البنفسج
قى قــرى الآلام
خمسون ارتعاشة طائر
خمسون من زهــر
ومن ورد البكاء
فما الذى أعطاه شعرك
غير دمعك
غير ضغط الــدَّمِّ
والألم المعربد فى ضلوعك
وازدهار السُكَّرىّ النهم
فى حمى دمـائك ،
هل بنيت بنايـة
ممشوقة الأركان ، والبنيــان
هل زركشت قامتها
أقمت على مداخلها
تماثيل الرخام الحر
أطلقت النوافير الملونة
الجميــلة
تصدح الأطيار
حول حياضها .. ،
وجلبت حارسها
ليعطيك التحية .. ،
هل أعدت غزالة الصحراء
ليلـــى
من خيام قبيلة ،لقصور عشقك
هل ركضت وراء روعتها
لتمنحها انتماءك
هل ضحكتَ
وقلتَ لا للدمع ، يا عبد الحليمِ.
وهل اصطفوا نزرا قليلا
من قصائدك الكثيرة فى
قواميس الشوامخ
هل بكت تلك المذيعة فى برامجها
وقالت قل كثيراً من قصائد عشق
ليلــى ... ،
هل اتتك رسائل العشاق تترى
فى بريد الريح ، فى يوم الخميس
ليلى كى تقص وهل تجئ إليك
عليك قصة هودج كسروه فى
ليل الزفاف واطعموها للهجير ..
........... وهل ترى ..
خمسون عاما ً
يا ابن نخلات عجافٍ
أمطرت
أغرابها الأحباب بالبلح الطروب
واطلقت سربا من "الصيص "العقيم
على خطـاك
لكى يضللك الجريدُ
لاوقت للافراحِ
فى دمك السخى ..
وتاه عن دمك الوريدُ
فلم انتظــارك
كل هذا الليل ؟
لا ليلى الغزالة
سوف تأتــى
لا ولن تهمى
على إطلالة الرمان
ُ فى فمهــا ورود ..
أترى تريد الآن ما كانت
غزالتك البهية
فى هوادجها تريد ؟‍
.. ها بعد عشرٍ
سوف تدخل فى ثياب فجيعة الستين
تجلس بين أحفادٍ صغارٍ
يطلقون عليك دهشتهم ،
إذا ما قلت شعراًَ عاصفاّ فى البنت
حين أتت وأطلقت الكوابيس
الخبيئة فى نعاسك
هزهزت وتر الخريف
بلمسةٍ عذراء منها
فاحتــرسْ
مازلت تهفو للبنات الحور
يا جد الوشايات العتية
ما تزال خطاك تركض
خلف تقع هديل فاتنة
وتطلق من لواعجك الخفية
ما احـتبسْ
يا أيها الأحباب ،
من دق الجرس
من أشعل الصبوات ثانية
ومن قاد الفؤاد ،
الى غوايته ، فغَنَى
وانغمسْ ...
فى بحر دمعته التى جاءت
لتصلحَ ما فَسَدْ
لملم جراحك واتئد
ما طار طير واجتهد
إلا كما طار ابتعد
ومضى بعيداً
فى البــدد
ها أنت فى الركن البعيد
من الحديقة
تحتسى شايا
وشايك جف فى قاع الإناء.. ،
مراكب الورق المسافرة الوديعة
لم تعد بالزنجبيل
ولا بمِسكٍ من بلاد الخيزران
ولا الزنابق أينعت فوق الجدار
مدافع الصلصال لم تصطد
عصافير الحنين ،
ولا الغزالة فى مرابعها البعيدة ،
تذكر الأحلام
لم تنجب فتىً
وعيونه
فى لون عينك اللتين ...
وليس فى مقدور قلبك
ِ" غير أن" يُصغى
لصوت مآذن الإشراق
يسألها الدعاء
لكى يصلى ركعتين
ويرتوى بسكونهِ
ويعيد درويشا قديما
فى دواخله الندية بالصفاء
يعيــد
ورد البارحه ..
الفاتحـة ..
**********************************************
هــوامش : *
زينب زميلة الدراسة الثانوية
.وليلى العامرية فتاة جاءت من صحراء مصر لتدرس فى كليةالزراعةفى السبعينات من القرن الماضى
. المناحل ، وأمراض النبات ** - من صميم الدراسة فى كلية الزراعة التى تخرجت فيها
مقهى الحديبية ** - مقهى قديم فى مدينة أسيوط كان اسمه مقهى الخواجه
جلسنا عليه وعقدنا صلحا بين أصدقاء فأسميناه بهذا الاسم وصار معروفاَ به بعد ذلك .