بين الحب و الحرب - علي محمود طه
بعد خمس جئتني يا ذكرياتي
و الأماني بين موت و حياة
بعد خمس يا لها في السّنوات
حملت كلّ ذنوب الكائنات
صاح فيها زحل بالظّلمات
فطوت نجمي و سدّت طرقاتي
و رمت شملي ببين و شتات
و الصّبا نشوان و الحبّ مؤاتي
أرجعي لي بعض أحلامي ، و هاتي
صفوا أنغامي ، و ردّي صدحاتي
حدّثي ليلة خضنا الأبيضا
في سكون خفته أن ينبضا
و دجي كالسّخط من بعد الرضى
قد دعونا نجمه أن يغمضا
جثم الرّعب عليه فنضا
لججا سودا و ظلا مقبضا
كلأذما عود ثقاب أومضا
دفع النّيل و أرغى و مضى
ينذر الرّكب فماجوا ركّضا
و ادّعى منهم خبيث عرّضا
أن نجما هتلريا مغرضا
شعّ نارا و توارى في الفضا
ذكريات كيف أقبلت إليّا ؟
كيف جزت البرّ و البحر القصيّا ؟
كيف خضت الكون لجّا دمويّا
و شولظا طاغي النّار عتيّا ؟
ذكرياتي جدّدي هذا الرويّا
و ابعثيه نغما عذبا شجيّا
ما عجيب أن تردّيه عليّا
بل عجيب أنني لا زلت حيّا
أتلقاك و كأسي في يديّا
و نشيدي ضارع في شفتيّا
طاف بي شاديك يدعوني مليّا :
أيّها الملاح حان الوقت هيّا ؟
حان أن ننشر خفّاق الشّراع
يا سفيني ويك ! هيّا ! لا تراعي
قد تدانى البحر من بعد امتناع
و غدت فينيسيا قيد ذراع
هذه الجنّة ، يا ويح الأفاعي!
نقثت في زهرها سمّ الخداع !!
ىه دعني من أحاديث الصّراع
ضاع عمري ! ويح للعمر المضّاع
فالتمس نهزة حبّ و متاع
تحت أفق صادح صافي الشّعاع
يا شراعي طف بهاتيك البقاع
و تهيّأ للقاء و وداع !
أيّها البحر ! سفيني ما عراها ؟
رنّحتها نبأة رقّ صداها
أو حقّا قربت من منتهاها
هذه المحنة و انجاب دجاها ؟
أغدا تستقبل الدّنيا مناها
حرّة تشدو بمكنون هواها ؟
و أرى حرّيّة عزّ حماها
لأم يضع عقباه من مات فداها ؟
أيها الشّرق ! تأمل !! أتراها ؟
أنت من داراتها أين سناها؟
ذدت عنها و تقدّمت خطاها
يوم قالوا : خسر الحرب فتاها !
أيّ بشرى زفّها أرخم لحن ؟
من تراه ذلك الطّيف المغنّي ؟
مسّ قلبي صوته إذ مسّ أذني
ألحبّ ، أم لسلم ، أم تمنّي ؟
يا بشير السّلم لا يذبك ظنّي
أنا ظمآن إلى الشّدو فزدني
عبرت بي الخمس في صمت و حزن
أيّ خمس بعدها تمتدّ سنّي؟
صاح قلبي إن تدعني لست منّي
إفتح الباب و نحّ القيد عنّي
آه دعني أبصر العالم دعني
قد سئمت اليوم أرضي سجني !
ما ثوائي من مكان ما ثوائي !
هو ذا الفجر فهبّوا أصدقائي !
إفتحوا نافذتي عبر الفضاء
إفتحوها لأرى لون السّماء
في ظلال السّلم أو نور الصّفاء
حنّ قيثاري لشعري و غنائي
فانشدوني بين أمواج الضّياء
و انشدوا فوق البحيرات لقائي
لا تقوقوا كيف يشكو من بقاء
شاعر في موطن خالي الرّواء؟
قد ظلمتم دعوتي أصدقائي
و جهلتم ما حياة الشّغراء !!
يا ابنة الأيزار حيّيت ، سلاما
و غراما ، لا عتابا لا ملاما
هذه الحرب التي راعت ضراما
شبّها طاغ بواديك أقاما
ذقت الغربة و جدا و سقاما
أتراها لم تطب مصر مقاما ؟
مصر كانت لمحبّيها دواما
لم تضع عهدا و لم تخفر ذماما
فاذكري في الغد أحبابا كراما
إن ألمّت بك ذكراها لماما
و اذكري بعض لياليها القدامى
في ضفاف حملت عنك الهياما
في ضفاف كلّ ما فيها جميل
تنبت الحبّ و تنمي و تنيل
يخطر الفجر عليها و الأصيل
بين صفصاف و حور و نخيل
يد هاتور على كلّ جميل
تنشر النّوار في كلّ سبيل
و أوزيس على الشّط الظّليل
يعصر الخمر و يسقي السّلسبيل
هذه مصر ديارا و قبيل !
ألها في هذه الدّنيا مثيل ؟
عجبا لي ، و عجيب ما أقول !
كيف يدعوني غدا عنها الرّحيل ؟!