العشاق الثلاثة - علي محمود طه

سرى القمر الوضّاح بين الكواكب
يفكّر فيما تحته من غياهب

فناداه من وادي الخليّين هاتف
بصوت محبّ في الحياة مقارب

يقول له : يا روعة الحسن و الصّبا
و أجمل أحلام اللّيالي الكواعب

أنا العاشق الوافي إذا جننّي الدّجى
و راعيك بين النّيرات الثّواقب

ألا ليتني حرّ كضوئك أرتقي
عوالمك الملأى بشتّى العجائب

و يا ليت لي كنز ابتسامتك التي
تبعثرها في الكون من غير حاسب

***

فاصغي إليه الضّوء في صفو جذلان
و أضفى على الوادي شعاع حنان

و جاس خلال السّحب و الماء و الثّرى
فلم ير في أنحائها وجه إنسان

فصاح به : يا صاحبي ضلّ ناظري
فأين ترى ألقاك أم كيف تلقاني

فأوما له إنّي هنا تحت شرفتي
وراء زجاجيها أخذت مكاني

أبى البرد أن أستقبل اللّيل قائما
و أن أنزل الوادي بحيث تراني

و حسب الهوى من عاشق لك وامق
تزوّد عيني من سنا ضوئك الحاني !

***

فألقى عليه الضّوء نظرة حائر
و أعرض عنه بابتسامة ساخر

و قال له : يا صاحبي قد جهلتني
و يا ربّ شعر ساقه غير شاعر

أنا الموثق المكدود طالت طريقه
طريق أسير في رعاية آسر

تجاذبني طاحونة الشّمس كلّما
وقفت و تمضي بي سياط المقادر

و ما بسمتي إلا دموع من اللّظى
قد التمعت في وجه سهمان حاسر

فدع عنك يا أعجوبة الحبّ عالمي
فقبلك لم يلق الأعاجيب ناطري !

***

و أمعن في تفكيره القمر الزّاهي
فمر بارض ذات عشب و أمواه

يناجيه منها عاشق ذو ضراعة
مناجاة صوفيّ لطيف إله

بقول له : يا مشهدي كلّ ليلة
على أنّه في النّاس من غير أشباه

و ترسم لي الأشباح طيف خياله
فأدنو لضمّ أو للثم شفاه

تمنّيت لو وسّدت خدّك راحتي
و صدرك خفّاق ، و جفنك ساهي

***

فرفذ على الوادي الشّعاع طروبا
و ناداه من بين الظّلال مجيبا :

أزح هذه الأغصان عنك لعلّني
أصافح و جها ، من هواك حبيبا

فجاوبه : يا قرّة العين إنّني
قد اخترت من شطّ الغدير كثيبا

إذا أتعبت عيني السّماء تطلّعا
و خالست احظا للنّجوم مريبا

ففي صفحات الماء نهزة عاشق
يراك على بعد المزار قريبا

خلوت به ، أرعاك أو في قسامة
و أوفر من سحر الجمال نصيبا !

***

فغاض ابتسام الضّوءمن فرط حيرة
و صاح : نجييّ أنت حقّرت سيرتي

هو الكون مرآتي ، و مجلى مفاتني
و ما لغدير أن يمثّل صورتي

و ما نظر العشّاق إلاّ لعالم
يعظّم في المعشوق كلّ صغيرة

أعيذ الذي شبّهتني بجماله
أديم محيّا مثل صمّاء صخرتي

أنا الفحمة البيضاء إن جنّني الدّجى
أنا الحمّة السوداء ، رأد الظهيرة

فدع عالم الأفلاك و اقنع بلجّة
و غازل من الأسماك كلّ عزيرة !

***

و بينا يهيم الضّوء في سبحاته
و قد وعظ هذا الكونفي سخرياته

رأى شبحا في قرب نار كأنّما
يودّع طيفا غاب عن نظراته

يمدّ ذراعيه ، و يرسل صوته
بلوعة قلب في نبراته

إلى القمر السّاري محيّاه شاخص
كصاحب نسك غارق في صلاته

فحام عليه الضوء و استمهل الخطى
و أجرى سناه الطّلق في قسماته

و صاح به : يا شيخ ما أنت قائل
تكلّم ! فإنّ اللّيل في أخرياته

***

فقال له : يا باعث الحبّ و المنى
سلمت و حيّتك العوالم و الدّنى

شفيت جوى شبخ أحبّك يافعا
و عاش بهذا الحبذ جذلان مؤمنا

و أفنيت عمري أرتقي عالي الذّرى
إلى أن بلغت اليوم مثواي ههنا

و أوقد ناري كي تراني و أنثني
لأطلق ألحاني ، و أدعوك موهنا

و قيل ضنين لا يجود بوصله
فهأنذا ألقاك يا ضوء محسنا

تساوت كلاب تنبح البدر ساريا
و نوّام ليل أنكروا آية السنا !

***

فحدّق فيه الضّوء و ارتد مغضبا
و قال له : أفنيت في سخفك الصّبا

و لمّا ترح جفنا من السّهد متعبا
و سخرية بالنّار ، أن تتفرّبا

كأنّ شعاعي في جفونك قد خبأ
و من عبث مثواك في هذه الرّبى

على حين لم تبلغ من النّور مرقبا
و ما كنت إلا ّ الواهم المترقّبا

وثالث عشّاق بهم ضقت مذهبا
و كانوا لأمثال الخليذين مضربا

فوا أسفا ، ما كنت في الدّهر مذنبا
فأجزي بنجوى من تعشّق أو صبا

و ساق على حبذي الدليل المكذّبا
سل العاصي الهاوي من الخلد هل نبا

به اللّيل لمّا آثر الأرض و اجتبى؟
أ أبصر قلبي الدّجنّة كوكبا

أضاء له الدّرب السّحيق المشعّبا
و هل في سنا غيري تملّي و شبّبا

بحواء و اهتاج اليراع المثقّبا
حويتهما روحا طريدا معذّبا

فذاب حيائي منهما ، و تصبّبا
و أورثني هذا الشّحوب ، و أعقبا

رأيت فمّا يدنو ، و وجها تخضّبا
و صدرا خفوقا فوق صدر توثّبا

غرائز فيها الغيّ و النقص ركّبا
تلمّس في ضوئي الأثام المحبّبا

فيا شيخ دع هذا الوشاح المذهّبا
تر الحمأ المسنون في الكأس ذوّبا

طفا الرّاح فيه ، و التراب ترسّبا
و إنّ كلاب الأرض أشرف مأربا

ينير لها ضوئي الظّلام لتجنبا
خطى اللصّ يستار الطّريق المحجّبا

فإن نبحت ضوئي ، تسمّعت معجبا
بأرخم لحن ، رنّ في اللّيل مطربا

تحيّة مثن بي أهلّ مرحّبا
بني آدم ، إن لم يكن آدم الأبا

رجوت لكم من عالم الرّجس مهربا
و آثرتكم بالكلب جدّا مهذّبا

و أجمل بالإنسان أن يتكلّبا

و مال عن الأرض الشّعاع و غرّبا
و وسوس فس صدر الدّجى فتألّبا

***