ميلاد شاعر - علي محمود طه

هبط الأرض كالشعاع السنيّ
بعصا ساحر و قلب نبيّ

لمحة من أشعّة الرّوح حلت
في تجاليد هيكل بشريّ

ألهمت أصغريه من عالم الحكـ
ـمه و النّور كلّ معنى سريّ

و حبته البيان ريّا من السحـ
ـر به للعقول أعذب ريّ

حينما شارفت به أفق الأر
ض زها الكون بالوليد الصّبيّ

و سبى الكائنات نور محيّا
ضاحك البشر عن فؤاد رضيّ

صور الحسن حوّم حول مهد
حفّ بالورد و العمار الزّكيّ

و على ثغره يضيء ابتسام
رفّ نورا بأرجوان ندي ّ

و على راحتيه ريحانة تنـ
ـدى و قيثارة بلحن شجيّ

فحنت فوق مهده تتملّى
فجر ميلاد ذلك العبقريّ

و تساءلن حيرة : ملك جا
ء إلينا في صورة الإنسيّ؟

من ترى ذلك الوليد هـ
ـشّ له الكون من جماد و حيّ؟

من تراه؟ فرّن صوت هتوف
من وراء الحياة شاجي الدّويّ

إنّ ما تشهدون ميلاد شاعر

***

كان وجه الثّرى كوجه الماء را
ئق الحسن مستفيض الضّياء

حين ولّى الدّجى و أقبل فجر
واضح النّور مشرق اللألاء

بهج في السّماء و الأرض يهدى
من غريب الخيال و الإيحاء

صفّقت عنده الخمائل نشوى
و شدا الطّير بين عود و ناء

مظهر يبهر العيون و سحر
هزّ قلب الطّبيعة العذراء

و جلا من بدائع الفنّ روضا
نمّقته أنامل الإغراء

ما الرّبيع الصّناع أوفى بنانا
منه في دقّة و حسن أداء

نسق الأرض زينة و جلاها
قسمات من وجهه الوضّاء

ربوة عند جدول عند روض
عند غيض و صخرة عند ماء

فزها الفجر ما بدى و تجلّى
و ازدهى بالوجود أيّ ازدهاء

قال:لم تبد لي الطّبيعة يوما
حين أقبلت مثل هذا الرّواء

لا و لم يسر ملء عيني و أذني
مثل هذا السّني و هذا الغناء

أيّ بشر لها تجمّلت الأر
ض و زافت في فاتنات المرائي؟

علّها نبّئت من الغيب أمرا
حملته لها نجوم المساء

قال ماذا أرى ؟ فردّد صوت
كصدى الوحي في ضمير السّماء

إنّ هذا يا فجر ميلاد شاعر

كان فجر و كان ثمّ صباح
فيه للحسن غدوة و رواح

بكرت للرّياض فيها عذارى
تزدهيهنّ صبوة و مراح

حين لاحت لهنّ رنّ هتاف
و علت بالدّعاء منهنّ راح

قلن : ما لأجمل الصّباح فما حـ
ـلّ على الأرض مثل هذا صباح

فتعالوا بنا نغنّي و نلهو
فهنا اللّهو و الغناء يتاح

و هنا جدول على صفحتيه
يرقص الظّلّ و السّني و الوضّاح

و على حافتيه قام يغنّيـ
ـنا من الطّير هاتف صدّاح

و فراش له من الزّهر ألوا
ن و من ريق الشّعاع جناح

دفّ في نشوة يناديه نوّا
ر و عطر من الثّرى فوّاح

و هنا ربوة تلألأ فيها
خضرة العشب و النّدى اللماح

و نسيم كأنه النّفس الحا
ئر تصغي لهمسه الأدواح

مثل هذا الصّباح لم يلد الشّر
ق و لم تنجب الشّموس الوضاح

لكأّنا بالكون أعلام ميلا
د و عرس قامت له الأفراح

أيّ حسن نرى؟ فردّد صوت
شبه نجوى تسرّها أرواح

إنّ هذا الصباح ميلاد شاعر

و تجلى المساء في ضوء بدر
و شفوف غرّ الغلائل حمر

و سماء تطفو و ترسب فيها الـ
ـسّحب كالرّغو فوق أمواج بحر

صور جمّة المفاتن شتّى
كرؤى الحلم أو سوانح فكر

لا ترى النّفس أو تحسّ لديها
غير شجو يفيض من نبع سحر

أفق الأرض لم يزل في حواشيـ
ـه صدى حائر بألحان طير

و بأحنائه يرفّ ذماء
من سني الشّمس خافق لم يقرّ

و على شاطئ الغدير ورود
أغمضت عينها لمطلع فجر

وسرى الماء هادئا في حوا
فيه يغنّي ما بين شوك و صخر

و كأنّ النجوم تسبح فيه
قبلات هفت بحالم ثغر

و كأنّ الوجود بحر من النو
ر على أفقه الملائك تسري

هتفت نجمة: أرى الكون تبدو
في أساريره مخايل بشر

و أرى ذلك المساء يثير السّحـ
ـر و الشّجو ملء عيني و صدري

ترانا بليلة الوحي و التّنـ
ـزيل؟ أم ليلة الهوى و الشّعر؟

ما لهذا المساء يشغفنا حبّـ
ـا و يروي بنا الفتون و يغري

أيّ سرّ ترى؟فرنّ هتاف
بنجيّ من الصدى مستسرّ

إنّ هذا المساء ميلاد شاعر

قمر مشرق يزيد جمالا
كلّما جدّ في السّماء انتقالا

و سكون يرقى الفضاء جناحا
ه على الأرض يضفوان جلالا

هذه ليلة يشفّ بها الحسـ
ـن و يهفو بها الضّياء اختيالا

جوّها عاطر النّسيم يثير الـ
ـشّجو و الشّعر و الهوى و الخيالا

و إذا النّهر شاطئا و نميرا
يتبارى أشعّة و ظلالا

و سرى فيه زورق لحبيبـ
ـن شجيّين ينشدان وصالا

يبعثان الحنين في صدر ليل
ليس يدري الهموم و الأوجالا

شهد الحبّ منذ كان روايا
ت على مسرح الحياة توالى

و جرت ملء مسمعيه أحاديـ
ـث عفا ذكرها لديه و دالا

ذلك الباعث الأسى و المثير الـ
ـنّار في مهجة المحبّ اشتعالا

لم يجب قلبه لميلاد نجم
لا و لم يبك للبدور زوالا

بيد أنّ القضاء أوحى إليه
ليذوق الآلام و الآمالا

فأحسّ الفؤاد يخفق منه
و رأى النّور جائلا حيث جالا

و استخفّته من شفاه الحبيـ
ـبين شؤون الهوى فرقّ و مالا

و تجلّت له الحياة و ما فيـ
ـها فراعته فتنة و جمالا

فجثا ضارعا: أرى الكون ربّي
غير ما كان صورة و مثالا

لم يكن يعرف الصّبابة قلبي
أو تعي الأذن للغرام مقالا

أتراها تغيّرت هذه الأر
ض أم الكون في خيالي حالا

ربّ ماذا أرى؟ فرنّ هتاف
مستسرّ الصّدى يجيب السّؤالا

إنّ هذا يا ليل ميلاد شاعر

***

و تجلّى الصّدى الحبيب السّاحر
في محيط من الأشعّة غامر

و سكون يبثّ في الكون روعا
وقفت عنده اللّيالي الّدوائر

و ستكان الوجود و التف الدّهـ
ـر و أصغت إلى صداه المقادر

لم يبن صورة و لكن راته
بعيون الخيال منّا البصائر

قال: يا شاعري الوليد سلاما
هزّت الأرض يوم جئت البشائر

فإليك الحياة شتّى المعاني
و إليك الوجود جمّ المظاهر

لا تقل كم أخ لك اليوم في الأ
رض شقيّ الوجدان أسوان حائر

إن تكن ساورته في الأرض آلا
م و حفّت به الجدود العواثر

فلكي يستشفّ من خلل الغيـ
ـب جمالا يذكي شباب الخواطر

و لكي ينهل السّعادة من نبـ
ـع شهيّ الورود عذب المصادر

فلكم جاء بالخيال نبيّ
و لكم جنّ بالحقيقة شاعر

إنّما يسعد الوجود و تشقو
ن و إنّي لكم مثيب و شاكر

و لكم جنّتي اصطفيتكم اليو
م لتحيوا بها جميل المآثر

فانسقوها جداولا و رياضا
و اجعلوها سرح النّهى و النّواظر

اجعلوا النّهر كيف شئتم و مدّوا
شاطئيه بين المروج النّواضر

ماؤه ذوب خمرة و سنا شمـ
ـس وريّا ورد و ألحان طائر

وضعوا هضبة تطلّ عليه
ذات صخر منوّر العشب عاطر

واغرسوا النّخلة الجنيّة فوق النّبـ
ـع في الموقف البديع السّاحر

و اجعلوا جنّتي قصيدة شاعر

***

أدخلوا الآن أيّها المحسنونا
جنّة كنتم بها توعدونا

اجعلوها من البدائع زونا
و املأوها من الجمال فنونا

املأوها فنّا و ليس فتونا
و انشروا الصّفو فوقها و السّكونا

غير لحن يرفّ فيها حنونا
تتغنّى به الطّيور و كونا

و سنا مشرق يضيء الدّجونا
سرمديّ الشّعاع يمحو المنونا

رائق النّور ليس يعشي العيونا
وتغنّوا بها كما تشتهونا

و صفوها جداولا و عيونا
وورودا نديّة و غصونا

لا تثيروا بها الهوى و المجونا
و احذروا أن تذكّروا المجنونا

فلقد ثاب من هواه شجونا
و خلا مهجة و جفّ شؤونا

و هو في جنّتيه أسعد شاعر

***

أيّها الشّاعر اعتمد قيثارك
و اعزف الآن منشدا أشعارك

و اجعل الحبّ و الجمال شعارك
و ادع ربّا دعا الوجود و بارك

فزها و ازدهى بميلاد شاعر