على حاجز السفينة - علي محمود طه
حنت على حاجز السّفينه
ترنو إلى الرّغو و الزّبد
كأنّها الفتنة السّجينه
تمضي بها لجّة الأبد
نبت بها ضجّة المكان
يزينها الصّمت و الجلال
و البحر من حولها أغاني
و السّحب و الرّيح و الجبال
ساهرة وحدها تطلّ
بملتقى النّور و الظّلام
لا تسأم الصّمت أو تملّ
تهامس الشّهب و الغمام
تصغي إلى الموج و الرّياح
في معزل شاق كلّ عين
كأنّها نجمة الصّباح
مطلّة من سحابتين
هفهافة الثّوب في بياض
يكاد عن روحها يشفّ
لأيّ ذكرى و أيّ ماض
يسري بها خاطر و يهفو
و ما وراء العباب تبغي
و أيّ سرّ لها تبدّى
و أيّ لحن إليه تصغي
بروحها الحالم استبدّا
عجبت للبحر ما عراه
يودّ لو مسّ ناظريها
يتاخم النّجم في علاه
و ينثني جاثيا لديها
و هائم في الفضاء صبّ
مجنّح لا يبن طيفا
كم ودّ لو – من ضنى و حبّ
هوى على صدرها و أغفى
كم بثّ من أنّة و ألقى
بهمسة ضائع صداها
يا ويحه لا يحير نطقا
فكيف تلقي له انتباها
أنفاسه عن جواه تغني
عليلة خفقها اضطراب
كآهة في فم المغنّي
جريحة لحنها العذاب
يدنو ، و يرتدّ في حياء
يجاذب الثّوب و الشّعر
و كلّما كلّ من عياء
أثاره الوجد فاستعر
***
يضمّها راعشا و يمضي
مباعدا ، و هو ما ابتعد
كأنّه بالحنين يقضي
لبانة الرّوح و الجسد
و القمر الطّالع الصّغير
أزاح عن وجهه السّحابا
و قد جرى ضوؤه الغرير
يستشرف الأفق و العبابا
المرح العابث الطّروب
لمّا دعا بايمه الشّروق
نادت به موجة لعوب
إليّ .. يا أيّها المشوق
طال على المنتأى طروقي
و طال مسراك في السّماء
فنم على صدري الخفوق
و احلم بما شئت من هناء
و انسني وحشة اللّيالي
بقبلة منك يا حبيبي
لكنّه مرّ لا يبالي
ولجّ في صمته العجيب
مذ أبصرته انثنى و مرّا
قالت، و من دمعها مسيل:
لأنت مثل الرّجال طرّا
يا أيها الخائن الجميل
و هبتك الغضّ من شبابي
سكران من خمر أمسياتي
فأين تمضي على العباب
من صوت حبّي و ذكرياتي
أعندها مثل فتنتي
أم أنّني افترى عليها
إذهب إليها و دع ذمامي
فديتك، اسلم على التنائي
إذبح على صدرها غرامي
و املأ لها الكأس من شقائي
واله مع الغيد و العذارى
وغنّ بالكأس و الوتر
و انقع من الغلّة الأوارا
و اقطف من اللّذة الثّمر
أبوك ، و الطّبع لا يحول ،
ورثته خلقة و خلقا
يا أيّها القلّب الملول
من قبضتي لن تنال عتقا
مطارد أنت باشتياقي
ما جبت أرضا و جزت بحرا
مقيّد أنت في وثاقي
و إن رأتك العيون حرّا
لأنت مهما كبرت طفلي
يا ابن الهوى البكر و الألم
خطاك مسبوقة بظلّي
و إن تعلقّت بالقمم
سأحفظ العهد منك دوما
و أقطع العمر في انتظارك
و سوف تأوى إليّ يوما
تبكي ، و أبكي إلى جوارك
ضراعة من عذاب أنثى
مشت على المائج الغضوب
صغا لها اللّيل و استحثّا
سواكن الرّيح للهبوب
و حدّقت في الدّجى نجوم
غيري ، تغامزن بالخبر
و غمغمت نجمة رؤوم
أما يرى ضوءه القمر ! ؟
أما يرى ذلك الصّبيّا
يؤلب البحر و الظّلاما ؟
فيا له فاتنا خليّا
يزور العشق و الغراما !
كم ليلة الف ليله
لم تروها عنه شهر زاد
و كم عناق له و قلبه
في كذبة لفظها معاد
فاستوعب الضّوء ملء حسّه
مفاتن النّاس و الطّبيعه
مردّدا في قرار نفسه
ما أبشع الغيرة الوضيعه
و ارتعش الضّوء ثم اضفى
من حوله الصّفو و السّكينه
و ابتسمت نفسه فألفى
خطاه في جانب السّفينه
فراعه ذلك الجمال
جمالها الصّامت الحزين
فشاقه الشّعر و الخيال
و هزّه الوجد و الحنين
فقال: يا روعة المساء
وفتنة اللّبّ و البصر
قد آذن اللّيل بانقضاء
وأنت موصولى السّهر
أيتّها الملكة الكسيره
أيّتها الرّبة الخجوله
أيّتها الطّفلة الكبيره
لن تبرحي عالم الطّفوله !
أعلم ما تكتمين عنّي
و إن تلثذمت بالخفاء
خمس ليال و أنت منّي
متبوعة الظّلّ باشتهائي
قد كنت أزهى بما عرفت
من فتن الحسن و الدّلال
لكنّني اللّيلة اكتشفت
أروع ما شمت من جمال
عشقت فيك الهوى و دلّه – في زهوة الحسن و الشّباب
و ذلك الصّمت ، ما أجلّه
في عالم اللّغو و الكذاب
هاربة انت يا فتاتي
من ثورة الشكّ و الرّيب
هربت من ضجّة الحياة
فكيف من نفسك الهرب !
بها ابدئي أولا فسلّي
وردك من شوكه الأثيم
لا البعد يجدي و لا التّسلي
كطعنك الغدر في الصّميم
هنية لم يطل مداها
تروع بالصّمت و الشّحوب
لم يبلغ اللّيل منتهاها
إلاّ على روعة المغيب
و التفت الضةء للوداع
يهمس في رقّة و وجد
يا ربّة الحسن لا تراعي
فلترعك الكائنات بعدي
يا ليل ، يا موج ، يا رياح
أيّتها السّحب و الظّلال
أيّتها الغور و البطاح
أيتها الشّهب و الجبال
في الجوّ في الماء ، في الثّرى
صوني لها العهد و الوداد
ردّي على عينها الكرى
و أبعدي الفكر و السّهادا
و أنقذيها من الجوى
يا عاشقاتي على الزّمان
بكلّ ما فيك من قوى
و كلّ ما فيّ من حنان !!