التمثال - علي محمود طه
قصة الأمل الإنساني في أربعة فصول
.
.
أقبل اللّيل ، و اتذخذت طريقي
لك ، و النّجم مؤنسي و رفيقي
و توارى النّهار خلف ستار
شفقيّ من الغمام رقيق
مدّ طير المساء فيه جناحا
كشراع في لجه من عقيق
هو مثلي ، حيران يضرب في اللّيـ
ـل و يجتاز كلّ واد سحيق
عاد من رحلة الحياة كما عد
ت ، و كلّ لو كره في طريق !!
أيّها التّمثال هأنذا جئـ
ـت لألقاك في السّكون العميق
حاملا من غرائب البرّ ، و البحـ
ـر و من كلّ محدث ، و عريق
ذاك صيدي الذي أعود به ليـ
ـلا و أمضي إليه عند الشّروق
جئت ألقي به على قدميك الآ
ن في لهفة الغريب المشوق
عاقدا منه حول رأسك تاجا
و وشاحا ، لقدّك الممشوق !
صورة أنت من بدائع شتّى
و مثال من كلّ فنّ رشيق
بيدي هذه جبلتك من قلـ
ـبي و من رونق الشّباب الأنيق
كلّما شمت بارقا من جمال
طرت في أثره أشقّ طريقي
شهد النّجم كم أخذت من الرّو
عة عنه ، و من صفاء البريق
شهد الطّير كم سكبت أغانيـ
ـه على مسمعيك سكب الرّحيق
شهد الكرم كم عصرت جناه
و ملأت الكؤوس من إبريقي
شهد البرّ ما تركت من الغا
ر على معطف الرّبيع الوريق
شهد البحر لم أدع فيه درّا
جدير ابمفرقيك خليق
و لقد حيّر الطّبيعة إسرا
ئي لها كلّ ليلة و طروقي
و اقتحامي الضّحى عليها كراع
أسيويّ أو صائد إفريقي
أو إله مجنّح يتراءى
في أساطير شاعر إغريقي
قلت : لا تعجبي فما أنا إلاّ
شبح لجّ في الخفاء الوثيق
أنا يا أم صانع الأمل الضّا
حك في صورة الغد المرموق
صغته صوغ خالق يعيشق الفنّ
و يسمو لكلّ معنى دقيق
و تنظرّته حياة ، فأعيا
ني دبيب الحياة في مخلوقي !!
كلّ يوم أقول : في الغد ، لكن
لست ألقاه في غد بالمفيق
ضاع عمري ، و ما بلغت طريقي
و شكا القلب من عذاب و ضيق
***
معبدي ! معبدي ! دجا اللّيل إلا
رعشة الضّوء في السّراج الخفوق
زأرت حولك العواصف لمّا
قهقه الرّعد لالتماع البروق
لطمت في الدّجى نوافذك الصّم
و ضقّت بكلّ سيل دفوق
يا لتمثالي الجميل ، احتواه
سارب الماء الشّهيد الغريق
لم أعد ذلك القويّ ، فأحميـ
ـه من الويل و البلاء المحيق
ليلتي ! ليلتي جنيت من الآ
ثام حتّى حملت ما لم تطيقي
فاطربي و اشربي صبابة كأس
خمرها سال من صميم عروقي !
مرّ نور الضّحى على آدمي
مطرق في اختلاجه المصعوق
في يديه حطامة الأمل الذا
هب في ميعة الصّبا المرموق
واجما أطبق الأسى شفتيه
غير صوت عبر الحياة طليق
صاح بالشّمس : لا يرعك عذابي
فاسكبي النّار في دمي و أريقي
نارك المشتهاة اندى على القلـ
ـب و أحنى من الفؤاد الشّفيق
فخذي الجسم حفنة من رماد
و خذي الروح شعلة من حريق
جنّ قلبي فما يرى دمه القا
ني على خنجر القضاء الرّقيق !!