الطريد - علي محمود طه

شقيّ أجنته الدّياجي السّوادف
سليب رقاد أرقّته المخاوف

ترامى به ليل أيّها التافه الخطى
يساريك برق أو يباريك عاصف؟

رأيتك في بحر الظّلام كأنّما
إلى الشّاطئ المجهول يدعوك هاتف

تخوض الدّجى سهمان و النّجم حائر
يسائل : من ذاك الشّقي المجازف!؟

طريدا يفرّ الوحش من وقع خطوه
و يعزب عنه الصّل و الصّل واجف

كأنّ إله الشّرّ يقتحم الورى
أو أنّ الرّدى في برده الرّث زاحف

فوا عجبا !! لم تحمل الأرض مثله
و لا طاف منه بالدّجنّة طائف

يخاف الثّرى مسراه وهو يخافه
و بينهما يسري الدّجى و هو خائف

ترى أيّ سرّ في الظّلام محجّب؟
أليس له من نبأة القلب كاشف؟

أجبني طريد الأرض إنّي يهزّني
إليك هوى من جانب الغيب شاغف!!

فرددّ ذاك الطيف صوتا محبّبا
إليّ كلحن رددّته المعازف

و قال أجل إنّي الطّريد و إنّه
لسرّ تهزّ القلب منه الرّواجف

أتسألك الأفلاك عنّي أنا الذي
رمته الدّياجي و الرّعود القواصف؟

أجل : إنّ ذاتي يا نجيّ تنكّرت
لعينك لكنّ القلوب تعارف !

و ما أنا من بني الأرض ناء بي
مقيم عذابي و الشّقاء المحالف

و كان هذا النّوء و الموج و الدّجى
ليرهب نفسا حقّرت ما تصادف

سواء لديها أشرق الفجر أم سجت
غياهب في سرّ الدّجى تتكاثف

هي الأرض مهد الشّر من قبل خلقنا
و من قبل أن دبّت عليها الزّواحف

غذتها الضّحايا بالجسوم فأخصبت
و أترعها سيل من الدّم جارف

و هيهات تشفى غلّة من دمائنا
و يا ليت ترويها الدّموع الذّوارف

و لي قصّة يشجي القلوب حديثها
و يعجز عن تصويرها اليوم واصف

دعوت إلى حرّية الرّأي معشرا
ثقافتهم ضرب من العلم الزائف

يرون بأنّ العيش لذّات ماجن
و أن قصاراه خلى و زخارف

إذا لمحو نور الحقيقة أغمضوا
وقالوا : ألا أين الضّياء المشارف؟

عجبت لهذا العقل حرّا فما له
من الوهم يمسي و هو في القيد راسف

هة الحقّ في الكوج الحقير فحيّه
و ليس بما تزهي هناك المقاصف

هنا تصدق الإنسان عاطفة الهوى
إذا كذبت ربّ القصور العواطف

لقد سئمت نفسي الحياة و ما أرى
بديلا عن الكأس التي أراشف

أيجحد في الشّرق النّبوغ و يزدري
و يشقى بمصر النّابهون الغطارف

يجوبون آفاق الحياة كأنّهم
رواحل بيد شرّدتها العواصف

طرائد الصّحراء لا نبع واحة
يرقّ و لا دان من الظّل وارف

ألا إنّ قلبا طعينا تحوطه
عصائب تنزو من دمي و لفائف

أقلّته أحنائي ذماء و لم أزل
به في غمار الحادثات أجازف

كم رفّ نسر راشه السّهم فارتقى
خفوق جناح و هو بالدّمّ نازف

أتيت إلى هذا المكان تهزّني
إليه عهود للشّباب سوالف

أرددّ فيها للطفولة و الصّبا
أحاديث شتّى كلّهن طرائف

أودّعها قبل الفراق و إنّني
أفارقها و القلب لهفان و كاسف

إلى حيث ينمو الرّأي حرا تذيعه
من الحقّ فيها ألسن و صحائف

لعلّ بلادا ما علتني سماؤها
و لا نبهت فيهل لذكرى عوارف

أعيش بها حرّ العقيدة هاتفا
برأيي إمّا أسعدتني المواقف!