في عالم الذكرى - علي محمود طه

ألقاك في عالم الذّكرى و تلقاني
رغم الفراق بهذا العالم الفاني

أرنو إلى وجهك الضّاحي فيشرق لي عن صفحتي مرح في الخلد جذلان

و أجتلي لمحات العبقريّة في
عينين حدّثتا عن روح فنّان

لأنت حيّ برغم الموت ، أسمعه
كعهده ، و أراه ملء وجداني

عذب البيان ، سريّ اللفظ مازجه
ما في طباعك من حسن و إحسان

يذكي الشّيوخ بأحلام الشّباب و كم
أذكى بحكمتهم أحلام شبّان

أصغي إليك، عميق الفكر ، ملتمعا
في منطق جهوريّ الصّوت رنّان

كالغيث يلمع في الآفاق بارقه
و في الثّرى منه زهر ، فوق أفنان

عفّ الضّمير حوى الدنيا بنظرته
فلم ترعه بأشكال و ألوان

مقيّد بعريق من خلائقه
لا خوف بطش و لا زلفى لسلطان

كالنّهر يقتلع الأسداد ، منطلقا
حرّا ، و يجري حبيسا بين شطئان

يعطي الحياة لأقوام و ينشرها
شتّى روائع في خقل و بستان

تمثّل الحقّ يرمس كلّ شائبة
عنه ، و يغرق فيه كلّ بهتان

حامس القضاء و راعي العدل ، في بلد
لا يأمن العدل فيه سطوة الجاني

و رافع الصّرح لاستقلاله ، عجبا!
صنع السّماء ترى ؟ أم صنع إنسان ؟

صبري ! أحقّا طواك الموت ؟ كيف ؟ و ما
هذي المواكب و من قاص و من داني ؟

كالأمس ضجّت فهل أسمعت هاتفها
صدى هتافك في جنّات رضوان ؟

قم بشّر الحقّ و اخطب في كتائبه
يا صاحب الخلد هذا يومك الثّاني !

***

يا واهب الثورة الكبرى يفاعته
حين الشباب رؤى غيد و ألحان

و صاحب العهد لم يطرح أمانته
كهلا يصاول عن أهل و أوطان

وقف على مصر هذا القلب متّقدا
بحبّها ، من لهذا المدنف العاني

قد استبدّت به ، حتّى استبدّ به
عادي الرّدى ، و هو لا واه و لا واني

يا للشهيد صريعا ملء حومته
سيفا خضيبا و جرحا من دم قاني !

***

هذي الصحائف من مجد و من شرف
هيهات يسلمها دهر لنسيان

ذخائر الوطن الغالي يرتّلها
على مسامع أجيال و أزمان

فيها أغاني لعشّاق قد افتقدوا
أوطانهم ، و أناشيد لفرسان

أحرار مملكة أرسوا دعائمها
على أساس من الشّورى و أركان

لم يرهبوا سوط جلاّد و لا حفلوا
بسيف باغ و أصفاد سجّان

و لا أقاموا على ذلّ و إن ذهبوا
على دموع و آلام و أشجان

همو البناة و إن لم يذكروا يدهم
فيما يرى الجيل من مرفوع بنيان

لا تسألنّ الضحايا عن مآثرهم !
و سائل الأثر الباقي : من الباني ؟

***

ذكراك ما سنحت للفكر ، أو عبرت
بالقلب ، إلاّ وهاجت نار أحزان

فزعت منها إلى الأوهام أسألها
أأربعون مضت ؟ أم مرّ عامان ؟

قد أذهل الخطب شعري عن شوارده
و أنسيت كلماتي شدو أوزاني

فجئت أجريه دمعا في يدي رجل
قد صاغه الله من حقّ و إيمان

هذا الذي باركت مصر زعامته
و قبّلت جرحها في قلبه الحاني !