نصفُ نُوتة - فاطمة ناعوت

رتَّبا المساءَ على النحو الذي يليقُ بشاعريْن.
...
يمكنُ لشاعرٍ
أن يشقَّ البحرَ بخنصرِه
يروِّضَ المعاركَ،
يلهو بقطعِ الكونِ فوق طاولتِه ،
ثم يُخرجَ من جيبِ سترتِه حفنة شهبٍ
ينظِمُها عُقدًا لامرأتِه.
وحدَه الشاعرُ
من أقنعَ التاريخَ
بالتنحّي.
...
رتَّبا المساءْ ،
بعدما أغلقا النافذةَ
على الصواريخِ ذاتِ الرؤوسِ،
وأقدامِ المارينز تتقدّمُ صوبَ دجلةَ ،
أغمضا عن عيونِ الثكلاواتِ
لأن الخنساءَ
لم تقرأْ "سوزان برنار" ،
ولأن آذارَ
وقتُ الحياةِ لا الموتْ.
...
قالَ :
نحنُ الشعراءَ لنا جبهةٌ أخرى :
ساحةُ الورقِ و طلقاتُ المدادْ ،
...
ثم إنَّا من نشجبُ القراراتِ وننددُ بخرقِ معاهدةِ جنيف ،
عدا حدسَنا في استشعارِ الخطرْ
حسبَ" عبد الصبور "
حين قارنَ بين الفئرانِ
وبيننا.
...
ثم اعتدّل وقرأَ قصيدتَه.
...
قالت :
لأني أمتلكُ حدسَ الشعراءِ:
فإن معركةَ التحريرِ النظيفةَ
ستغدو احتلالاً بعد واحدٍ وعشرين يومًا،
وبما أن عشراتِ الدواوين ستُكتبَ،
أبادرُهم قائلةً:
" للعرافةِ
في آخرِ وادي النطرونْ
رأيٌ آخرُ
قالتْ :
قولي لصديقكِ أن يأتي في الليلِ وحيدًا
و اعطيهِ الورقةَ مطويةْ :
إن أنتَ بليْلٍ
أوغلتَ بموصلَ حتى النبعْ
و زرفتَ الخبزَ الجافَ على الأطيارْ
و مددتَ الحزنَ الكامنَ في الأعماقِ و في بابلَ
لانشقَّ البحرُ عن الحوتِ
و لجاءتْ مريمُ و الأحبارُ وجلجامش
و لجاءَ الخضْرُ وعشتارْ
و لزحفتْ مملكةُ النملِ بركبِ الملك سليمانْ
إن أنتَ بليْلٍ
أفرغتَ القلبَ من الأوجاعْ
و نظرتَ هنالك
صوبَ النهرِ الشاهدِ مذبحة الأمسْ
و قبضتَ بقبضتِكَ المشروخةِ
حفنةَ رملٍ ملتاعة
فتعالَ و رفقتُكَ
لأقرئُكم سِفرَ الأنباءِ
أريكمْ
أن الحزنَ سيكمنُ طولَ العمرِ بأجيالٍ
غفلتْ عن طعنِ الظهرِ من الأعداء
و راحتْ تبحثُ عن موتٍ
لا يشبه موتَ الكهفيين
بل موتُ الحرفِ على الشفتين
أو موتُ القلمِ على الورقِ."
...
فتعالَ وقُلْ:
...
"إلى بغدادَ طريقٌ واحدٌ
يَمرُّ من فوهةِ
قلمْ !"
...
أنهيا القصيدتين،
افترشا أرضَ الردهةِ
ببساطِ كرداسةَ ،
غلَّفا الحيطانَ بالأفرخِ الزرقاءْ
و إصداراتِ العامِ الجديدْ ،
أحكما عوازلَ الصوتِ،
و أعدّا المقاعدَ للأوركسترا .
...
بائعُ القناديلِ وفيروزْ
تورطّا في الأمرِ سريعًا ،
فتحدثَ النِّفَّريُّ
عن اتساعِ الرؤيةِ وضيقِ التنفسِ ،
بينما استسلمَ ناجي للرَمَلِ
و أطلالِ الموصِلِ وقَسوةِ الحبيبةِ وحزبِ البعثْ،
و اعتذرَ " أبو نواس " عن المجيء.
...
يتكلمونَ عن الاثنين وثلاثينَ إنذارًا
وقرارِ نزعِ السلاحْ،
والبنتِ
التي دهستْها الشاحنةُ قبل يومين
أمامَ مجلسِ الأمن.
...
يتكلمونْ
عن المرأةِ التي التقطتْ حبيبَها
من جوارِ السفارةِ البريطانيةِ ،
ليبتكرا مساءً
يخصُّ الشعراءَ وحدهم .
مساءً
أجادَ صنعَه المدعوون
المقاعدُ الخاليةُ،
بياعُ القناديلِ وسجادُ كرداسةَ،
و الألمْ .
وحدَه " نصير شمّة "
من أفسدَ الخُّطةَ،
إذ اعترضَ على اختيارِ هذا المساءِ تحديدًا
فحذفَ نصفَ النوتةِ
ردًّا
على قصفِ بغدادْ !
__________
مكانٌ آخر / 20 مارس 2003