عمرٌ طويناه - عبدالرزاق عبدالواحد

ألقيت في افتتاح ملتقى الإبداع بميسان حيث استقبلته مدينته بعد نصف قرنٍ من الغياب

....

كالنَّهرِ جاء ولكنْ... دون شطآنِ
ينسابُ... يعثرُ أذيالاً بأردانِ

مُجلَّلاً بنَديفِ الشَّيب.. مُحتضِناً
في قلبِهِ الشمسَ فجراً وَسْطَ دُخّانِ

روحاً مهوّمةً في شكلِ إنسانِ
يكاد يذرفُ دمعاً خَطْوهُ الواني

يطوي إليكِ مدى ستّين موحشةً
ترى عرَفتِهِ يا شطآن ميسانِ؟!

*

كان الهوى يومها أوجاعَ أغنيةٍ
أنغامُها أدمعٌ تجري بألحانِ

تمرُّ بالهور.. بالبرديِّ.. توقظُهُ
وتنتقي قصَباً من كلِّ شريانِ

تُحيلُهُ نايَ عشقٍ فوق شاطئها
ومطبجاً باكياً في الشاطئ الثاني

وكنتُ طفلاً غزيرَ الشَّعر، فاحمَهُ
فعدتُ والشَّيب أرعاهُ ويرعاني

ترى تذكَّرتنِي شطآنَ ميسانِ؟!

*

تركتُ فوق (علي الغربي) أعزَّ هوىً
كنتُ ابنَ عشرٍ، فهل .. يا كلَّ إنسان

سمعتمو بابنِ عشرٍ من هواهُ بكى؟
الآن أُقسمُ أنّ الحبَّ أبكاني!

مَن ذا يُصدّقُ أنّ القاطنين هنا
في عمر عشرٍ لهم أوجاعُ فرسانِ!

وأنّهم يفهمون الحبَّ مُذْ وُلدوا
فهم سكارى بهِ من دون بُهتانِ

وهم يُحيلونَهُ دمعاً وأغنيةً
تسري مع الريح من سَهرى لسَهرانِ!.

(مَسعود).. ما قلتَ لي (وين الوَعَد) أبداً
لو قلتَها مرةً قطَّعتُ أرساني

وجئتُ أركضُ للكحلاء داليةً
بلا فروعٍ، وقلبي بين أحضاني!

وأنتِ يا (مَجَرَ) الأحباب.. فيكِ لنا
جَدٌّ رضعنا الهوى في بيتِهِ الهاني

ردّي لنا أيَّ شيءٍ من ملامحِهِ
من ذلك البيت.. من سيباطِهِ الحاني

يا ما رجَفنا على أغصانِ سدرتِهِ
مُذ قيلَ إنَّ عليها وَكرَ ثعبانِ

للآن والنَّبقُ فيها ملءَ ذاكرتي
يشدّني نحوَهُ، والخوفُ يَنهاني!

*

يا ذكرياتُ اصفحي عنّا فإنَّ بنا
طفولةً لم تَزل في سجنِ سَجّانِ

عمرٌ طويناهُ، لم نعرفُ طفولتَنا
من فَرطِ قَهرٍ بنا، أو فرطِ حرمانِ

*

أو فرطِ زهوٍ يُخلِّينا نقول لـهُ
أبا فلانٍ.. وهوْ في عامِهِ الثاني!

ويصبحُ الطفلُ، ما زال الحليبُ على
شفاهِهِ، رجلاً يمشي بميزانِ!

(شَطَّ العمارةِ).. هل مازال موقعُنا
عليك نعرفُهُ من دون برهانِ؟

وفي (السريَّةِ) هل ظلَّت منازلُنا
أم مالَها الدهرُ أركاناً لأركانِ؟

و(الفيصليَّةُ).. هل مدَّ الزمانُ يداً
إلى أساتذتي فيها وأقراني؟

مَن ظلَّ منهم؟.. ومن أودى؟.. وأيُّ يدٍ
إذا مدَدتُ يديَّ الآن تلقاني؟!

*

يا (أنورَ بنَ خليلٍ) طالَ موقفُنا
و(كاظمٌ) ما رأيناهُ إلى الآنِ

تُرى تناسى (أبو أحلام) موعدَنا
من فرطِ رَفضٍ بهِ، أم فرطِ إذعانِ؟

أم أنَّنا يا صديقَ العمر.. خلَّفَنا
طولُ السُّرى بين مدفونٍ ودَفّانِ؟!

ويا (لميعةُ) يا أزهى بيادرِها
يا زرعَ بيتي، ويا قنديلَ جيراني

يا أطوَلَ النَّخلِ في ميسانَ أجمَعِها
ويا أعزَّ الحَلا في تمر ميسانِ!

يا بنتَ خاليَ.. ما أبقى الزمانُ لنا
ممّا حدَوناهُ من ركبٍ وأظعانِ؟

تُرى أأنبأكِ العرّافُ ليلَتَها
أنّا سنصبحُ في الستيّن سيّانِ

أنا هنا بين أهلي شبهُ مغتربٍ
وأنتِ فردٌ بلا أهلٍ وأوطانِ!

يا رحمةَ الله في من لستُ أبصرُهُ
لكنّهُ الآن في قلبي ووجداني!

يا رحمةَ الله في من لستُ أسمعُهُ
لكنْ يظلُّ صداهُ ملءَ آذاني!

*

عفوَ العمارةِ أنّي يومَ فرحتِها
أمرُّ فيها بأوجاعي وأحزاني

وكانت انتظرَتْ من فرعِ دوحَتِها
أن يقرعَ الشِّعرَ أوزاناً بأوزانِ

لكنّه العمر.. ناعورُ السّنين لـهُ
دلوٌ بقلبي، ودلوٌ بين أجفاني!

*

ميسان... يا وسعَهُ زهوي بميسانِ
الماءُ مائيَ، والبستانُ بستاني

والأهلُ أهليَ حتى أنَّ أبعَدَهم
أدنى لقلبيَ من أهلي وإخواني!

ما كان لي أن يَرفَّ الشعرُ في شفتي
لو لم تكن سُفُني منها وسَفّاني!

هي العمارةُ، فجرُ العمر.. مُرضِعَتي
وما أزال رضيعاً حين تَنخاني!

تكادُ تهوي على أقدامِها شفتي
أُمّي.. ورَبَّةُ إنجيلي وقرآني!

وأكرمُ ا لناسِ أهلوها وجيرَتُها
وأصدَقُ الناس هم في كلِّ ميدانِ

نُبلاً، وطيبةَ نفسٍ، وانفتاحَ يدٍ
وخيرُها أنَّهم جذعي وأغصاني!

وهم ملاجئُ روحي كلَّما اغترَبتْ
وهم مياهي.. وهم زرعي وبنياني

القادسيةُ كانوا خيرَ ذادتِها
وخيرَ من توَّجوها بالدمِ القاني

في (الشّيب)، في (الفكَّةِ) الغراء.. وقفَتُهُم
تبقى منارَ شجاعاتٍ وشجعانِ

وما تزال لـ (تسواهن) هلاهلُها
والهور مازال محروساً بعلوانِ!

*

يا أمَّ روحي، وقد أحيَيتِ قافيتي
بما أعَدتِ لها مِن زهوها الفاني

وعُدتِ ستّين عاماً بي.. وها أنذا
طفلٌ إليكِ حَبا في عامة الثاني!

________________

هوامش:

علي الغربي، والمجر : من أقضية محافظة ميسان.

مسعود : هو مسعود عمارتلي. مغني العمارة الشهير.. وأشهر أغانيه (وين رايح وين.. وين الوعد وين).

السيباط : سرير يُرفع بعمودين.. وهو مشهور في العمارة.

المطبج : مزمار مزدوج يُصنع من القصب.

السرية : محلة في العمارة عاش فيها الشاعر طفولته.

الفيصلية : مدرسته الابتدائية التي درس فيها.

أنور خليل، وكاظم التميمي: من أشهر شعراء العمارة.. توفيّا.

لميعة : لميعة عباس عمارة. الشاعرة المشهورة.. وفي البيت إشارة إلى ديوانها (لو أنبأني العراف).

الشيب والفكة : موقعان في العمارة دارت فيهما أشرس المعارك بين العراقيين والإيرانيين.

تسواهن : بطلة الأهوار المشهورة.