لبنان... - محمد مهدي الجواهري
أرجِعي ما استطعتِ لي من شَبابي
يا سُهولاً تَدَثَّرَتْ بالهِضابِ
غسَلَ البحرُ أخْمَصَيْها ، ورشَّتْ
عبِقاتُ النَّدى جِباهَ الرَّوابي
واحتواها " صِنّينُ " بينَ ذِراعيه
عجوزاً له رُواءُ الشَّباب
كلَّلتْ رأسَهُ " الثّلوجُ " ، ومسَّتْهُ
بأذيِالها مُتونُ السَّحاب
وانثنى " كالاطار " يحتضِنُ الصّورةَ
تُزْهَى ، أو جَدْولٍ في كتاب
كلَّما غامَ كُربةً من ضَبابٍ
فرَّجَتْ عنه قُبْلةٌ من شِهاب
وبدَتْ عندَ سفحِه خاشِعاتُ
الدور مثل " الزٍّميت " في مِحراب
وحواليَهِ من ذَراريهِ أنماطٌ
لِطافٌ ، من مُسْتَقِلٍّ وكابي
و " القُرَيَّاتُ " كالعرائس تُجْلى
كلَّ آنٍ تلوحُ في جِلباب
منْ رقيقِ الغُيوم تحتَ نِقابِ
ومِنَ الشَّمسِ طلقةً في إهاب
وهي في الحالتين فِتنةُ راءٍ
بينَ لونينِ من مُشِعٍّ وخابي
والبيوتُ المُبَعْثراتُ " نَثارُ "
العُرس مبثوثةً بدونِ حساب
وتراها بينَ الخمائلِ تلتفُّ
عليها ، عمارةً في غاب
وتماسَكْنَ – والطبيعةُ شِعرٌ -
كقوافٍ يَلْمَعْنَ غيرَ نوابي
زهوُ حُمْرِ القبِاب في الجبَلِ الأخضرِ
يَسبي كزهو أهلِ القباب
و " الكرومُ " المُعرِّشاتُ حُبالى
مُرضِعاتٌ كرائمَ الأعناب
حانياتٌ على " الدوالي " تُحَلِّينَ
عناقيدَ زينةً للكعاب
رافعاتُ الرءوسِ شُكْراً ، وأُخرى
ساجداتٌ شُكْراً على الأعتاب
سِلْنَ في الحَقْل مثلَ رُوحٍ لجسمٍ
وتمدَّدْنَ فيهِ كالأعصاب
وتصايَحْنَ: أين .أينَ النَّدامى ؟
وتغامَزْنَ ثَمَّ للأكواب
وتخازَرْنَ والمَعاصِرُ أبصاراً
حِداداً مَلِيئةً بالسّباب
نَظَراتٍ كانت خِطاباً بليغاً
ولدى " العاصرينَ " فحوى الخطاب
إنَّ خيرَ الشُهورِ إرثاً لشهرٍ
ما تَلقَّى " أيلولُ " من شهرِ " آب"
كيفَ لا ترقصُ الطبيعةُ في أرضٍ
ثراها مُخَضَّبٌ بالشراب
غاضَ " نبعُ " النَّهارِ يُؤْذنُ ضوء البدرِ
قد فاضَ نبعهُ بانسِكاب
وانزوَتْ تلكُمُ الخليعهُ ! طولَ اليومِ
" عُريانةً " وراءَ حجاب
وأتتْ في غَيابةِ " الشَّفَقِ "الأحمرِ
ما تشتهي مِنَ الألعاب
أي لونٍ ألقتْ على الأرضِ حَلَّى
كلَّ ما فوقَها ، وأيَّ خِضاب
هدأ الحَقْلُ والمدينةُ والغابُ
ودوَّى الصَّدى ورَجْعُ الجواب
ثمَّ سدَّ الدُروبَ جيشُ " الكَدودين "
طَوالَ النَّهارِ في أتعاب
حبَّذا منظرُ " الفؤوس " استراحتْ
في " نِطاقِ " الفلاَّحِ والحطَّاب
واستقلَّ الجبالَ " راعي " غُنَيْماتٍ
يُدَوّي " بزجلَةٍ " و " عتاب"
يا مَثارَ الأحلامِ ، يا عالَمَ الشّعر
طريّاً ، يا جَنَّةً من تراب
يا خيالاً لولا الحقيقةُ تُنبي
عنه كنَّا من أمرهِ في ارتياب
حسبُ نفسي من كلِّ ما يأسِرُ النَّفْسَ
اغتِراراً من الأماني العِذاب
هجعةٌ في ظِلال " أرزِكِ" تَنفي
مِن هُمومي ووَحشتي واكتئابي
وصديقي وحشٌ أعزُّ وأوفى
من حسودٍ ، ومن صديقٍ محابي
لا أقولُ " العدوُّ " إنَّ عِداتي
" نَسَبٌ " واضحٌ من الأنساب؟!
كلَّما شاقني التأملُ لفتَّني مجاري
المياهِ بينَ الشِّعاب
بينَ صفَّيْ " صَنَوْبرٍ " كشُعورِ الغيد
لُمَّتْ على قُدودٍ رِطاب
آيةُ اللهِ عندَ لُبنانً َ هذا الحسنُ
في عامرٍ له وخراب
رُبَّ " وادٍ " بادي المقاتِلِ تعلوهُ
الأخاديدُ كالجروح الرِّغاب
كانَ في سِحرهِ كآخَرَ زاهٍ
مستفيضِ المياهِ والأعشاب
وفِجاجٍ مَغْبَرّةٍ كُنَّ أبهى
روعةً من مُفَيَّحاتٍ رِحاب
قلتُ إذ حِرتُ : أيُّ أرض لها الفضلُ
على غيرها وحارَ صِحابي !
أدْخُلوا " جنَّةَ " النَّعيم تُلاقوا
ألفَ " رضوانَ " فاتحاً ألفَ باب
غيرَ أنّي أنكرتُ في جنَّةِ الفِردوسِ
"ربّاً " مُوَكَّلاً بعذاب!
إيهِ " لُبنانُ " ، والحديثُ شجونٌ
هل يُطيقُ البيانُ دَفعاً لما بي ؟
حارَ طيَّ الَّلهاةِ مّني سؤالٌ
أنا أدرى بردِّهِ والجواب!
ما تقولونَ في أديبٍ " حريبٍ!"
" مُسْتَقلٍّ " يلوذُ بـ " الانتداب" ؟
خلتُ أني فررْتُ مِن " جوِّ بغدادَ "
وطُغيانِ " جَوْرها " الَّلَّهاب
ومِنَ البغيِ والتَّعَسّفِ والذُّلِّ
فظيعاً مُحَكَّماً في الرّقاب
ومِنَ الزّاحفينَ كالدُودِ " هُوناً "
تحتَ رِجليْ " مسْتَعْمِرٍ " غَلَّاب
ومنَ" الصَّائلينَ " في الحُكْمِ زُوراً
كخيولٍ " مُسوَّماتٍ " عراب
خِلْتُ أنّي نجوتُ مِنْ ذا ومن
بَطشةِ عاتٍ ، وخائنٍ كذّاب
غانماً " سَفرتي " وها أنا في حالٍ
تُريني غنيمتي في الإياب
أفيَبْقَى " الأحرارُ " مِنَّا ومِنكُم
بينَ سَوْطِ " الغريبِ " والإرهاب؟