أَحَقُّ الأَيادي أَن تُجَلَّ وَتُعظَما - شكيب أرسلان

أَحَقُّ الأَيادي أَن تُجَلَّ وَتُعظَما
وَتُسلَكَ في الأَعناقِ سَمَطاً وَتُنَظَّما

وَتَلبِسُها الأَيّامُ حَلياً وَكِسوَةً
وَتَسني لَها الأَحقابُ عيداً وَمَوسِما

أَيادي الأولى كانوا مَصابيحَ عَصرِهِم
لِمُدَّرِعٍ لَيلاً مِنَ الجَهلِ مُظلِما

وَمَن أَوضَحوا لِلحائِرينَ مَحَجَّةً
فَساروا بِهِم في العَيشِ نَهجاً مُقَوِّما

لَعَمري إِذا الأَعلامُ قيسَت جُهودُها
وَكُلٌّ أَتى عَمّا فَراهُ مُتَرجِما

وَجاءَ الكِرامُ الكاتِبونَ فَقيدوا
لِكُلِّ عِصامِيٍّ حِساباً مُرَقَّما

فَمَن مِثلُ عَبدُ اللَهِ في الشَرقِ عالَمٌ
لَهُ مِثلُ مِن رَبّي وَرقى وَعَلَما

تَلاميذُهُ عَدُّ الحَصى وَتَراهُم
بُدوراً بِآفاقِ البِلادِ وَأَنجُما

أَفاضَ عَلى الأَرجاءِ عِلمٌ عَلِمَهُ
فَعَجَّ وَمَن لِلبَحرِ كَقفوَ إِذا طَمى

وَبَثَّ لِسانُ العَرَبِ خَمسينَ حَجَّةً
يُقَوِّمُ مُنآداً وَيُوَضِّحُ مُبهَما

وَسَلَّ سُيوفاً مِن قَرابِ دِماغِهِ
فَفَلَّ بِها اللَحنَ جَيشاً عَرَمرَما

وَمَن يَبتَذِل في خِدمَةِ العِلمِ نَفسَهُ
فَأَجدَرَ بِأَن يَغدو عَزيزاً مُكَرَّما

رَقى مِن ذَرى التَحقيقِ في النَحوِ ذَروَةً
يُقَصِّرُ عَنها مَن مَضى وَتَقَدَّما

فَلَو كانَ لاقى سيبَويهِ وَرَهطَهُ
لَعادَ لَعَمري سيبَويه اِبنُ أَعجَما

وَلَم يَكُن ذِياكَ الكِتابَ مَرجَبا
وَرائَحَةُ التُفّاحِ لَم تَكُ مَغَنما

وَلَو كانَ في العَصرِ القَديمِ مَجيئَهُ
لَفَتَّ بِعَينِ الجحِظِ العَينِ حَصرَما

وَأَصبَحَ مَعَهُ الفارِسِيُّ وَاِبنُ فارِسٍ
وَقَد بَرَّئتَ تِلكَ الفَراسَةِ مِنهُما

لَباتَت بِأَحشاءِ المُبرَدِ غُلَّةً
وَكادَ اِبنُ جَنِيٍّ يُجِنُّ تَأَلُّما

وَصارَ اِبنُ عُصفورَ مَهيَضاً جَناحَهُ
وَلَو كانَ قَبلَ اليَومِ طارَ إِلى السَما

وَلَو ناظَروهُ في الفَرائِدِ مَرَّةً
رَأَوا مِن عُلاهُ ما يَفوقُ التَوَهُّما

وَأَصبَحَ مَعَهُ المَجدُ قَد قَلَّ مَجدَهُ
وَآبَ صِحاحُ الجَوهَرِيُّ مِثلَما

وَلَو كانَ جارُ اللَهِ جاراهُ بَذَّهُ
وَما اِفتَخَرَت مِنهُ زَمَخشَرُ بِاِنتِما

لَقَد سَعِدتُ مِنهُ العُروبَةُ بِالَّذي
تَوَلَّهُ فيها مُستَهاماً مُتَيَّما

وَثارَت لَهُ في نَصرِ أُمَّةِ يَعرُبٍ
عَزائِمَ شَوقٍ خالَطَ اللَحمَ وَالدَما

قَضى عُمرُهُ سَيفاً يَقِدُ عَداتَها
فَيَرمي بِهِم شَلواً فَشَلواً مُقَسَّما

يُبَلِّجُ مِن أَنوارِها كُلَّ ساطِعٍ
وَقَد يُنكِرُ الأَنوارَ مِن رِزقِ العَمى

وَيَكشِفُ عَن أَسرارِها كُلَّ غامِضٍ
عَلَيهِ حِجابُ الجَهلِ كانَ مُخَيِّما

فَما عَنَّ في يَومِ شُعوبِيُّ فِرقَةٍ
لِمُنقَصَةٍ إِلّا وَخَلاهُ مَلجَما

وَما لاحَ قَرنُ القَرنِ إِلّا اِنبَرى لَهُ
بِرَميِ الَّذي يَصمي لِعُمري إِذا رَمى

فَلَو شاءَت الفُصحى وَفاءَ جِهادَهُ
لَنَصَتَ لَهُ فَوقَ السَماكينَ مِجثَما

فَمَن لِلأُلى مِثلي اِرتَوَوا مِن مَعينِهِ
بِأَن يَنقَعوا مِن ذِكرِ مَعروفِهِ الظَما

عَرَفنا لَهُ فَضلاً عَلَينا وَمِنَّةً
وَلَم يَكُ ما نَرعاهُ عَهداً مُذَمَّما

وَما أَنا إِلّا مَن تَلَقَى بِضاعَةً
فَنَمَّقَ مِنها جَهدَ مُعيٍ وَنَمنَما

وَما الفَضلُ إِلّا لِلقَسامي عِندَما
يَراني الوَرى دَبَّجتَ بَرداً مُسَهَّما

وَما هُوَ إِلّا بَعضَ مَرجوعِ صَوتِهِ
وَتَقليدُ ما قَد كانَ جادَ وَأَنعَما

حَنانيكَ أُستاذَ الأَساتيذِ إِنَّنا
جَميعاً نُحَيِّ فيكَ مِن شَرَّفَ الحِمى

وَلَو أَنصَفَتكَ العَرَبُ لَم يَبقَ مُعرِبُ
عَلى سَطحِها إشلأّا أَتاكَ مُسَلَّما

وَلَو كانَ لُبنانَ يوفيكَ شُكرُهُ
لَأَوشَكَ فيهِ الصَخرُ أَن يَتَكَلَّما

تَقَبَّلَ ثَناءَ لَو غَدا رَملُ عالِجٍ
بِكَثرَتِهِ لِمَ نوفِ حَقّاً مُحَتَّما

وَقابَلَ بِغَضِّ الطَرفِ مَيسورٍ وامِقٍ
قُصارى مُناهُ أَن تَعيشَ وَتَسَلَّما