مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي - محمود سامي البارودي

مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي
فشبتُ وَ لمْ أقضِ اللبانة َ منْ سنى

عناءٌ ، وَ بأسٌ ، وَ اشتياقٌ ، وَ غربة ٌ
ألاَ ، شدَّ ما ألقاهُ في الدهرِ منْ غبنِ

فإنْ أكُ فارقتُ الديارَ فلي بها
فؤادٌ أضلتهُ عيونُ المها مني

بَعَثْتُ بِهِ يَوْمَ النَّوَى إِثْرَ لَحْظَة ٍ
فَأَوْقَعُهُ الْمِقْدَارُ فِي شَرَكِ الْحُسْنِ

فَهَلْ مِنْ فَتى ً فِي الدَّهْرِ يجْمَعُ بَيْنَنَا؟
فَلَيْسَ كِلاَنَا عَنْ أَخِيهِ بِمُسْتَغْنِ

وَلَمَّا وَقَفْنَا لِلْوَدَاعِ، وأَسْبَلَتْ
مدامعنا فوقَ الترائبِ كالمزنِ

أهبتُ بصبري أنْ يعودَ ، فعزني
وَ ناديتُ حلمي أنْ يثوبَ ، فلمْ يغنِ

وَ لمْ تمضِ إلاَّ خطرة ٌ ، ثمَّ أقلعتْ
بِنَا عَنْ شُطُوطِ الْحَيِّ أَجْنِحَة ُ السُّفْنِ

فَكَمْ مُهْجَة ٍ مِنْ زَفْرَة ِ الْوَجْدِ فِي لَظى ً
وَكَمْ مُقْلَة ٍ مِنْ غَزْرَة ِ الدَّمْعِ فِي دَجْنِ

وَمَا كُنْتُ جَرَّبْتُ النَّوَى قَبْلَ هَذِهِ
فَلَمَّا دَهَتْنِي كِدْتُ أَقْضِي مِنَ الْحُزْنِ

وَلَكِنَّنِي رَاجَعْتُ حِلْمِي، وَرَدَّنِي
إِلَى الْحَزْمِ رَأْيٌ لا يَحُومُ عَلَى أَفْنِ

وَلَوْلاَ بُنَيَّاتٌ وَشِيبٌ عَوَاطِلٌ
لما قرعتْ نفسي على فائتٍ سنى

فيا قلبُ صبراً إنْ جزعتَ ؛ فربما
جرتْ سنحاً طيرُ الحوادثِ باليمنِ

فقدْ تورقُ الأغصانُ بعدَ ذبولها
وَيَبْدُو ضِيَاءُ الْبَدْرِ فِي ظُلْمَة ِ الْوَهْنِ

وَ أيُّ حسامٍ لمْ تصبهُ كهامة ٌ
وَلَهْذَمُ رُمْحٍ لاَ يُفَلُّ مِنَ الطَّعْنِ؟

وَمَنْ شَاغَبَ الأَيَّامَ لانَ مَرِيرُهُ
وَ أسلمهُ طولُ المراس إلى الوهنِ

وَمَا الْمَرْءُ فِي دُنْيَاهُ إِلاَّ كَسَالِكٍ
مناهجَ لا تخلو منَ السهلِ وَ الحزنِ

فإنْ تكنِ الدنيا تولتْ بخيرها
فَأَهْوِنْ بِدُنْيَا لاَ تَدُومُ عَلى فَنِّ!

تحملتُ خوفَ المنَّ كلَّ رزيئة ٍ
وَ حملُ رزايا الدهرِ أحلى منَ المنَّ

وَعَاشَرْتُ أَخْدَاناً، فَلَمَّا بَلَوْتُهُمْ
تَمَنَّيْتُ أَنْ أَبْقَى وَحِيداً بِلاَ خِدْنِ

إذا عرفَ المرءُ القلوبَ وَ ما انطوتْ
عليهِ منَ البغضاءِ - عاشَ على ضغنِ

وَأَيُّ حَيَاة ٍ لاِمْرِىء ٍ بَيْنَ بَلْدَة ٍ
وَتَسْمَعُ أُذْنِي مَا تَعَافُ مِنَ اللَّحْنِ

وَكَيْفَ مُقَامِي بَيْنَ أَرْضٍ أَرَى بِهَا
منَ الظلمِ ما أخنى على الدارِ وَ السكنِ

فسمعُ أنينِ الجورِ قدْ شاكَ مسمعي
و رؤية ُ وجهِ الغدرِ حلَّ عرا جفني

وَ صعبٌ على ذي اللبَّ رئمانُ ذلة ٍ
يَظَلُّ بِهَا فِي قَوْمِهِ وَاهِيَ الْمَتْنِ

إذا المرءُ لمْ برمِ الهناة َ بمثلها
تخطى إليهِ الخوفُ منْ جانبِ الأمن

فَلاَ تَعْتَرِفْ بِالذُلِّ خِيفَة َ نِقْمَة ٍ
فَعَيْشُ الْفَتَى في الذُّلِّ أَدْهَى مِنَ السِّجْنِ

وَكُنْ رَجُلاً، إِنْ سِيمَ خَسْفاً رَمَتْ بِهِ
حَمِيَّتُهُ بَيْنَ الصَّوَارِمِ وَاللُّدْنِ

فلا خيرَ في الدنيا إذا المرءُ لمْ يعشْ
مهيباً ، تراهُ العينُ كالنارِ في دغن

وَ لا ترهبِ الأخطارَ في طلبِ العلا
فَمَنْ هَابَ شَوْكَ النَّحْلِ عَادَ، وَلَمْ يَجْنِ

وَ لولا معاناة ُ الشدائدِ ما بدتْ
مزايا الورى بينَ الشجاعة ِ وَ الجبنِ

فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْمُدْنِ مَا شِئْتَ مِنْ قِرى ً
فَأَصْحِرْ؛ فَإِنَّ الْبِيدَ خَيْرٌ مِنَ الْمُدْنِ

صَحَارٍ يَعِيشُ الْمَرْءُ فِيهَا بِسَيْفِهِ
شَدِيدَ الْحُمَيَّا غَيْرَ مُغْضٍ عَلَى دَمْنِ

وَ أيُّ حياة ٍ لامرئٍ بينَ بلدة ٍ
يَطَلُّ بِهَا بَيْنَ الْعَوَاثِنِ وَالدَّخْنِ؟

لعمري لكوخٌ منْ ثمامٍ
أَحَبُّ إِلَى قَلْبِي مِنَ الْبَيْتِ ذِي الْكِنِّ

و أطربُ منْ ديكٍ يصيحُ بكوة ٍ
أراكية ٌ تدعو هديلاً على غصنِ

وَ أحسنُ منْ دارٍ وَ خيمٍ هواؤها
مَبِيتُكَ مِنْ بُحْبُوحَة ِ الْقَاعِ فِي صَحْنِ

تَرَى كُلَّ شَيْءٍ نُصْبَ عَيْنَيْكَ مَاثِلاً
كأنكَ منْ دنياكَ في جنتيْ عدنِ

تدورُ جيادُ الخيلِ حولكَ شرباً
تجاذبُ أطرافَ الأعنة ِ كالجنَّ

إذا سمعتْ صوتَ الصريخِ تنصبتْ
فتدركُ ما لا تبصرُ العينُ بالأذنِ

فتلكَ - لعمري - عيشة ٌ بدورية ٌ
موطأة ُ الأكنافِ ، راسخة ُ الركن

وَمَا قُلْتُ إِلاَّ بَعْدَ عِلْمٍ أَجَدَّ لِي
يقيناً نفى عني مراجعة َ الظنَّ

فقدْ ذقتُ طعمَ الدهرِ حتى لفظتهُ
وَعَاشَرْتُ حَتَّى قلْتُ لابْنِ أَبِي: دَعْنِي

وَلَوْلاَ أَخٌ أَحْمَدْتُ فِي الْوُدِّ عَهْدَهُ
على حدثانِ الدهرِ - ما كنتُ أستثني

وَرُبَّ بَعِيدِ الدَّارِ يُصْفِيكَ وُدَّهُ
وَمُقْتَرِبٍ يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَمْ تَجْنِ

وَ ما الودُّ في القربى وَ إنْ هيَ أوجبتْ
وَ لكنهُ في الطبعِ ، وَ الشكلِ ، وَ الوزنِ

إذا لمْ يكنْ بينَ الوديدينِ خلة ٌ
فلا أدبٌ يجدى ، وَ لاَ نسبٌ يدنى

فَذَاكَ أَخٌ لَوْلاَهُ أَنْكَرْتُ كُلَّ مَا
سَمِعْتُ بِهِ عَنْ «أَحْنَفِ» الْحِلْمِ، أَوْ «مَعْنِ»

فَإِنْ لَمْ أُصَرِّحْ بِاسْمِهِ خَوْفَ حَاسِدٍ
يَنُمُّ علَيْهِ، فَهْوَ يَعْلَمُ مَنْ أَعْنِي

على َ إنَّ ذكراهُ - وَ إنْ كانَ نائياً -
سَمِيرُ فُؤَادِي في الإِقَامَة ِ وَالظَّعْنِ

أَنُوحُ لِبُعْدِي عَنْهُ حُزْناً وَلَوْعَة ً
كمانا من شوقٍ " جميلٌ " عاى َ " بثنِ "

فَمَنْ لِي بِه خِلاً كَرِيماً نِجَارُهُ؟
فقدْ سئمتْ نفسي معاشرة َ الهجنِ

تجاذبني نفسي إليهِ ، وَ دوننا
أهاويلُ ملتجَّ الغواربِ مستنَّ

لَعَلَّ يَدَ الأَيَّامِ تَسْخُو بِلُقْيَة ٍ
أَرَاهُ بِهَا بَعْدَ الْكَزَازَة ِ وَالضَّنِّ

وَإِنِّي ـ وَإِنْ طَالَ الْمِطَالُ ـ لَوَاثِقٌ
بِرَحْمَة ِ رَبِّي؛ فَهْوَ ذُو الطَّوْلِ وَالْمَنِّ